الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم

الشيخ محمد بن غيث

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الهادي النصيرِ، فنِعْمَ النصيرُ ونِعْمَ الهاد، يهدي مَن يشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ، ويبيِّن له سبيلَ الرشادِ، وينصرُ رسلَهُ والذين آمنوا في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهادُ.

وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، شهادة تُقيمُ وجهَ صاحبِها حنيفًا، تُبرِّئه من الإلحادِ،
وأشهد أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، أفضلُ المرسلينَ وأكرمُ العبادِ، أرسلهُ اللهُ بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهرَهُ على الدينِ كلِّهِ ولو كرِهَ أهلُ الشركِ والعنادِ.

ورفعَ له ذكرَه، فلا يُذكرُ إلا ذُكرَ معه، كما في الأذانِ والتشهدِ والخطبِ والمجامعِ والأعيادِ.

وكبَتَ مُحادَّه، وأهلكَ مشاقَّه، وكفاهُ المستهزئينَ به ذوي الأحقادِ، وبترَ شانئَه، ولعنَ مُؤذيهِ في الدنيا والآخرةِ، وجعلَ هوانَه بالمرصادِ.

واختصَّه على إخوانِه المرسلينَ بخصائصَ تفوقُ التعدادَ، فله الوسيلةُ والفضيلةُ والمقامُ المحمودُ، ولواءُ الحمدِ الذي تحتهُ كلُّ حمَّاد.

صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ أفضلَ الصلواتِ وأعلاها، وأكملَها وأنماها، كما يُحبُّ سبحانهُ أن يُصلَّى عليه، وكما أمرَ، وكما ينبغي أن يُصلَّى على سيدِ البشرِ.

والسلامُ على النبيِّ أفضلُ تحيةٍ وأحسنُها وأولاها وأبرُّها وأطيبُها وأزكاها، صلاةً وسلامًا دائمينِ إلى يومِ التنادِ، باقيَينِ أبدًا رزقًا من اللهِ ما له من نفادٍ.

(يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ حقَّ تُقاتِهِ ولا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون)

(يا أيُّها الذين آمنوا اتقوا اللهَ وكونوا مع الصادقين)

أما بعدُ:
أيها المسلمون، إن اللهَ تعالى هدانا بنبيهِ محمدٍ ﷺ، وأخرجَنا به من الظلماتِ إلى النورِ، وآتانا ببركةِ رسالتِهِ خيرَ الدنيا والآخرةِ.

وكان من ربِّهِ بالمنزلةِ العُليا التي تقاصرت العقولُ والألسنةُ عن معرفتِها ونعتِها، وصارت غايتُها إلى عِيِّها وصمتِها.

وقد أوجبَ على العبادِ تعزيرَهُ ونصرَهُ بكلِّ طريقٍ، وإيثارَه بالنفسِ والمالِ في كلِّ موطنٍ، وحفظَهُ وحمايتَه من كل مؤذٍ.

وإن كان اللهُ قد أغنى رسولَه عن نصرِ الخلقِ، ولكن ليبلو بعضَكم ببعضٍ، و{ليعلمَ اللهُ مَن ينصرُهُ ورسُلَهُ بالغيبِ}.

أيها الناس:
لقد مضتْ سنةُ اللهِ الكونيةُ أن ينالَ السفهاءُ من إمامِ الأنبياءِ، فقد تعرَّضَ رسولُنا ﷺ للأذى منذ بعثتِه، كما تعرَّضَ الأنبياءُ قبلَه وأوذوا.

قال اللهُ عز وجل: {قد نعلمُ إنهُ ليَحزُنُكَ الذي يقولون، فإنهم لا يُكذِّبونَكَ ولكنَّ الظالمينَ بآياتِ اللهِ يجحدون، ولقد كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِن قبلِكَ فصبروا على ما كُذِّبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرُنا، ولا مُبدِّلَ لكلماتِ اللهِ، ولقد جاءكَ من نبأ المرسلين}

ولكن قضى ربُّ العالمينَ أن العاقبةَ للمتقين، وأن دينَ نبيِّنا سيظهرُ على الدينِ كلِّهِ ولو كره المشركونَ الكافرون.

{إنا كفيناكَ المستهزئين}

{إن شانئَكَ -أي عدوك- هو الأبترُ} مقطوعٌ في الدنيا والآخرة. نعم، {إلا تنصروه فقد نصره الله}.

ولذلك قال لأبي بكرٍ حين اشتدَّت الأمور، وأُحيط بهم من كلِّ جانبٍ: {لا تحزن إن الله معنا}.

قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:
(فإن المعيةَ الإلهيةَ المتضمنةَ للنصرِ، هي لما جاء به إلى يوم القيامةِ، وهذا قد دلَّ عليه القرآنُ، وقد رأينا من ذلك وجرَّبنا ما يطولُ وصفُه).

نعم، وصدق الله: {سنريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنفسِهم حتى يتبيَّنَ لهم أنه الحقُّ}.

روى البخاري في "الصحيح" عن أنسٍ رضي الله عنه قال: (كان رجلٌ نصرانيًّا فأسلم، وقرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتبُ للنبيِّ ﷺ، فعاد نصرانيًّا، فكان يقول: لا يدري محمدٌ إلا ما كتبتُ له. فأماته الله، فدفنوه، فأصبح وقد لفظتْه الأرض.
فقالوا: هذا فعل محمدٍ وأصحابِه، نبشوا عن صاحبِنا، فألقوه، فحفروا وأعمقوا في الأرض ما استطاعوا، فأصبح وقد لفظتْه الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه على ظهرِها)

ورواه مسلم بلفظٍ: قال أنسٌ: (كان منا رجلٌ من بني النجار، قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان يكتب للنبي ﷺ، فانطلق هاربًا حتى لحق بأهل الكتاب، فعرفوه، قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد، فأُعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقَه فيهم، فحفروا له فوارَوه، فأصبحت الأرضُ قد نبذته على وجهِها، ثم عادوا فحفروا له فوارَوه، فأصبحت الأرضُ قد نبذته على وجهِها، ثم عادوا فحفروا له فوارَوه، فأصبحت الأرضُ قد نبذته على وجهِها، فتركوه منبوذًا)

قال الإمام ابن تيمية:
(فهذا الملعونُ الذي افترى على النبي ﷺ أنه ما كان يدري إلا ما كُتب له، قصمه الله وفضحه، بأن أخرجَه من القبر بعد أن دُفن مرارًا، وهذا أمرٌ خارجٌ عن العادة، يدل كلُّ أحدٍ على أن هذا عقوبةٌ لما قاله، وأنه كان كاذبًا، وأن الله منتقمٌ لرسوله ممن طعن عليه وسبَّه، ومُظهرٌ لدينِه ولكذب الكاذب، إذا لم يمكن الناسُ أن يقيموا عليه الحد).

ثم قال رحمه الله:
(ونظير هذا ما حدثناه أعدادٌ من المسلمين العدول، عما جرَّبوه مرَّاتٍ متعددة، في حصرِ الحصونِ والمدائنِ، قالوا: كنا نحصر الحِصن أو المدينةَ الشهرَ أو أكثر، وهو ممتنعٌ علينا، حتى نكاد نَيْأَسُ منه، حتى إذا تعرض أهلُه لسبِّ رسولِ الله ﷺ والوقيعةِ في عرضِه، تعجَّلنا فتحَه وتيسرَ، ولم يكدْ يتأخرُ إلا يومًا أو يومين، ثم يُفتحُ المكانُ عنوةً، ويكون فيه مَلْحمةٌ عظيمة، حتى إن كنا لنتباشرُ بتعجيلِ الفتح إذا سمعناهم يقَعونَ فيه، مع امتلاءِ القلوبِ غيظًا عليهم بما قالوه فيه).

يقول ابن تيمية:
(ومن سنة الله أن يعذِّبَ أعداءه تارةً بعذابٍ من عنده، وتارةً بأيدي عبادِه المؤمنين: {إن الذين يُحادّون اللهَ ورسولَه كُبِتوا كما كُبِتَ الذين من قبلهم، وقد أنزلنا آياتٍ بيِّناتٍ، وللكافرينَ عذابٌ مهين} {ومن يُشاقِقِ اللهَ ورسولَه فإن الله شديدُ العقاب} {والذين يُؤذونَ رسولَ اللهِ لهم عذابٌ أليم}
{ألم يعلموا أنَّهُ مَن يُحادِدِ اللهَ ورسولَه فإن له نارَ جهنمَ خالدًا فيها، ذلك الخزيُ العظيم}

اللهم اشدُد وطأتَك، وأنزلْ عذابَك ورجزَك على من نال من جنابِ نبيِّك.

اللهم عجِّل بخزيهم، اللهم عجِّل بخزيهم، ووالِ النكباتِ عليهم، اللهم اسلبهم الأمنَ والعافية، واجعلهم عبرةً لأهلِ الأرضِ أجمعين.

أقولُ هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.
.
.
.
الخطبة الثانية :

الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بعد، أيها المسلمون:
اعلموا أن من أوجبِ واجباتِ دينِكم، وأعظمِ أمورِه، محبةَ نبيِّكم ﷺ.

و[محبته] تقتضي موافقتَه ظاهرًا وباطنًا، فيحبُّ المسلمُ ما يحبُّ رسولُه، ويكرهُ ما يكره، ويعملُ بجوارحِه بمقتضى هذا الحُبّ.

ومن أهمِّ مظاهرِ المحبةِ وصدقِها: طاعتُه وامتثالُ أمرِه، قال سبحانه: {قُلْ إن كنتم تحبُّون اللهَ فاتَّبِعوني} وهذه الآية تُسمّى عند أهل السنة والجماعة بـ"آيةِ المحنة"، إذْ قد ادّعى قومٌ المحبةَ، فامتحنَ اللهُ محبتَهم باتباعِ رسولِه.

ومن أهمِّ مقتضياتِ المحبةِ: تعظيمُه عليه الصلاةُ والسلام، وتوقيرُه ونصرتُه، ويدخلُ في هذا: قتلُ مَن نال من جنابِه، أو استهزأ بشيءٍ من شريعتِه.

قال الإمام محمد بن سحنون:
(أجمعَ العلماءُ على أن شاتمَ الرسول ﷺ، والمُنْتَقِصَ له، كافرٌ، وحُكمُه عند الأمةِ: القتلُ، ومن شَكَّ في كُفرِه وعذابِه: كَفَر).

بل قال العلماءُ: (لو أسلمَ وتاب، يجوزُ قتلُه، ودمُه هَدَرٌ، لما ارتكبَه في حالِ كفرِه، وإن كان الإسلامُ يجبُّ ما قبلَه).

فالأمرُ ليس بالهيِّن، بل ذهابُ البلدانِ، واجتياحُ أهلِها ومالِها، أهونُ بكثيرٍ من النيلِ من جنابِ رسولِنا عليه الصلاةُ والسلام.

فأعظمُ المحاربةِ، وأعظمُ المعاداةِ، النيلُ من جنابِ رسولِنا عليه الصلاةُ والسلام.

قال العلامة ابن القيم:
(ولا ريبَ أن المحاربةَ بسبِّ نبيِّنا، أعظمُ أذيّةً ونكايةً من المحاربةِ باليد).

فانتبهوا لدينِكم أيها الناس، واعرفوا أعداءَكم، ولا يَحملنَّكم شيءٌ من متاعِ الدنيا على طَأطأةِ رؤوسِكم.

فربُّكم قد بيّن لكم الآياتِ إن كنتم تعقلون.

فأعداؤكم لا يألونكم خبالًا، أي: لا يُقصِّرون في إيصالِ الضرِّ بكم بكلِّ ممكنٍ{وَدُّوا ما عنِتُّم} أي: يُحبُّون ما يَشُقُّ عليكم {قد بدَتِ البغضاءُ من أفواهِهم، وما تُخفِي صدورُهم أكبر} وهذا أوضحُ من النهار.
{ولن ترضى عنك اليهودُ ولا النصارى حتى تتبعَ ملتَهم}

ولذلك قال الله:
{ها أنتم أولاءِ تُحبُّونهم ولا يُحبُّونكم، وتؤمنون بالكتابِ كلِّه، وإذا لقُوكم قالوا آمنا، وإذا خلَوا عضُّوا عليكم الأناملَ من الغيظ}

فمدارُ النصرِ والظهورِ مع متابعةِ النبي ﷺ وجودًا وعدمًا، من غير سببٍ يُزاحمُ ذلك، هذه هي النصرة، ولا تلتفتوا لغيرِ هذا.

{يُريدون أن يُطفِئوا نورَ اللهِ بأفواهِهم ويأبى اللهُ إلا أن يُتمَّ نورَه ولو كرهَ الكافرون}
{هو الذي أرسلَ رسولَه بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كره المشركون}

فتسلّحوا بالإيمان، واستمسكوا بسُنَّةِ خيرِ الأنام، واعتصموا بالله،

{هو مولاكم، فنِعْمَ المولى ونِعْمَ النصير}

اللهم...