الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ . «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً»، «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم و ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما»
أما بعد عباد الله :
فإن أمر الآخرة أمر عصيب، وشأنها جد خطير «إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ».
وإليك -رُعيت ووقيت وهُديت- خبرا من أخبار الآخرة وهولاً من أهوالها، حكاه الله في كتابه مما يتعلق بالسَّمع، ناهيك عما تراه الأعين وتحسه الأعضاء، والأذن تهاب قبل العين أحياناً.
عباد الله:
إن من أشد المواقف رهبة، وأقواها هيبة في عرصات ذلك المقام، حينما يكون الناس مجموعين في صعيد واحد، وقد طال انتظارهم ووقوفهم، فتُساق إليهم جهنم سوقاً، تأتيهم وهم في مكانهم فيشتد خوفهم.
ويزداد كربهم: «كلا إذا دكت الأرض دكا دكا وجاء ربك والملك صفا صفا وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى»
يُجاء بجنهم قد سَدَّت الآفاق يسوقها نحو من خمسة مليارات ملك عظيم الحجم، تُجر جرا، بسبعين ألف زماماً.
روى مسلم في الصحيح (7343) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها».
والناس حينها قد أنهكهم الوقوف، وأتعبهم الخوف، وطال بهم الانتظار، وأخذت منهم الظنون كلَّ مأخذ، فيرون النار أمامهم بهذا الحجم العظيم، والهيئة المرعبة، يأكل بعضها بعضاً، ويحطم نارها وطلعها كأنه رؤوس الشياطين.
فإذا رأت النارُ الناس أخرجت صوتاً عظيماً، وجَلَبَةً مروعة، فتطاير شررها، وطال لهبها، وتعاظم حجمها، فيسمعون منها صوت تغيظها وحنقها، «بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيراً»، نعم يسمعون صوت زفير كالصوت الخارج من الصدر
المكلوم غضبا وتغيظا.
حقاً إنه لصوت يتَفَزَّعُ له الجلد، ويقشعر له الشعر، وتطير منه أفئدة الخلائق جميعاً، فالنار من شدة توقدها وغاية الالتهاب فيها تصدر هذا الصوت الرهيب المروع، فتصمت الناس خوفاً، وتشخص أبصارهم، ولا يبقى في ذلك المقام ملك مقرب، ولا نبي مرسل إلا خر على ركبتيه من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال.
رُوي في الأثر: (إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ونزلت الملائكة وصارت صفوفا فيقول الله: يا جبرائيل ائتني بجهنم، فيأتي بها جبريل فتُقاد بسبعين ألف زمام حتى إذا كانت من الخلائق على قدر مائة عام زفرت زفرة طارت لها أفئدة الخلائق) قال الضحاك: (إن لجهنم زفرة يوم القيامة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا وقع لركبتيه ترعد فرائصه يقول: رب نفسي نفسي).
وقال عبدالله بن عمرو رضي الله عنه : (إن جهنم لتزفر زفرة تنشق منها قلوب الظلمة، ثم تزفر أخرى فيطيرون في الأرض حتى يقعوا على رؤوسهم ) .
عباد الله:
إن روعة ذلك الصوت، ومهابته وجلالته لا تُخيف الإنس وحدهم، بل حتى الجمادات؛ قال وهب بن منبه: (إذا سُيِّرت الجبال فسمعت حسيس النار وتغيظها وزفيرها وشهيقها صرخت الجبال كما تصرخ النساء ثم يرجع أوائلها على أواخرها يدق بعضها بعضا) [رواه الإمام أحمد في الزهد ٣٧٣].
والنار عباد الله:
تتكلم بعد ذلك الزفير والتغيظ، فتتكلم حين يلقى أهلها فيها؛ « وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذيره».
فصوتها كصوت فوران القدر وهو يغلي، صوت مزعج، وزمجرة مرعبة، شهيق وزفير، وتغيظ وفوران يذيب القلوب خوفاً، وتطيش معه العقول هلعاً.
صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ( إن العبد ليُجر إلى النار فتشهق إليه شهقة البغلة إلى الشعير ثم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا خاف) [أخرجه ابن جریر ۱۸۷/۱۸ قال ابن كثير ( التفسير 97/6) إسناد صحيح].
وفي ذلك المقام تتكلم النار بلسان فصيح مبين، وما ذلك على الله بعزيز؛ يقول سبحانه: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد».
في الصحيحين أن النبي ﷺ قال: « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فينزوي بعضها إلى بعض فتقول: قط قط بعزتك وكرمك ) .
وروى الترمذي أن النبي ﷺ قال: «يخرج يوم القيامة عنق من النار لها عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق تقول: إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين» . وما ذلك على الله بعزيز في ذلك اليوم.
عباد الله:
لقد كان النبي ﷺ يذكر أصحابه رضي الله عنهم بصوت جهنم وشدته، ويخوفهم منه؛ روى مسلم (7346) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا مع رسول الله ﷺ إذ سمع جلبة فقال النبي ﷺ : «تدرون ما هذا» قال: قلنا الله ورسوله أعلم. قال: «هذا حجر رُمي به في النار منذ سبعين خريفا فهو يهوي في النار الآن حتى انتهى إلى قعرها».
وكذا كان أصحابه من بعده يتذاكرون صوتها وغلظته لتلين قلوبهم ، ويتقالوا عملهم؛ روى ابن أبي شيبة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لكعب: خَوِّفْنا! فذكر كعب صوت النار وزفرتها، فقال: «والذي نفسي بيده! إن النار لتقرب يوم القيامة لها زفير وشهيق؛ حتى إذا دنت وقربت زفرت زفرة ما خلق الله من نبي ولا صدِّيق ولا شهيد إلا وجثا لركبتيه ساقطا حتى يقول كل نبي وكل صِدِّيق وكل شهيد: "اللهم لا أكلفك اليوم إلا نفسي" ولو كان لك يا ابن الخطاب عمل سبعين نبيا لظننت أن لا تنجو»، قال عمر : (والله إن الأمر لشديد ).
أولئك أقوام لانت قلوبهم فاتعظت قلوبهم بكلام الله وكلام رسوله ﷺ، وغيرهم آخرون قلت طاعاتهم وقست قلوبهم، تتلى عليهم الآيات، ويسمعون ماصح عن رسول الله ﷺ فلا يؤثر فيهم ولا يغير.
عباد الله:
إن سماع صوت النار ورهبته يشترك فيه الناس جميعاً في المحشر، ثم يزداد عذاب أهل النار بسماع صوتها كل حين وسماع صوت المعذبين فيها، وكما أن الله يخيف أهل النار والظَلَمة بصوت جهنم، فقد أَمَّن الله منه سكان الجنة وأهلها، وقد امتن الله على أهل الجنة بأنهم لا يسمعون صوت النار فقال سبحانه: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم في ما اشتهت أنفسهم خالدون» .
فهم لا يسمعون صوت النار وحركة تلهبها إذا نزلوا منازلهم من الجنة تفضلاً منه جل وعلا .
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره ومن استن بسنته واهتدى بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، ومن شد شد في النار، واعلموا عباد الله أن خير الكلام كلام الله جل وعلا ، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال جل وعلا: « إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً».
اللهم صلي وسلم وبارك ...