الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرورِ أنفُسِنا ومن سيئات أعمالِنا من يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له ، ومن يضلل فلا هادىَ له، وأشهد ألَّا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أمّا بعد :فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهدى هَدْىُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وشر الأمورِ مُحدثاتُها وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ وكلَّ ضلالةٍ في النارِ أما بعد:
أيها المسلمون : الكلام عن عمود الإسلام، وأول ما يُحاسب عليه الإنسان، بل عن الركن الثاني بعد توحيد الملك الديان، يقول عليه أفضل الصلاة وأتم السلام: "رأسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة" رواه الإمام أحمد وغيره.
وقال عليه الصلاة والسلام: "أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن صلُحت فقد أنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر" رواه الطبراني في الأوسط.
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: ((من ترك الصلاة فلا دين له))
وقال الفاروق عمر، بعدما طُعن وسأل عن صلاة الناس: ((هل صلوا، لا إسلام لمن ترك الصلاة)).
بل قال عليه الصلاة والسلام، موصياً أحد أصحابه: "لا تتركنَّ صلاةً متعمدا، فمن فعل ذلك فقد برِئت منه ذمة الله وذمةُ رسوله" رواه الإمام أحمد والطبراني.
عباد الله: هذا تركٌ لصلاة، فكيف بصلوات؟!! نعم، فكيف بمن لا يأتي المساجد إلا في المناسبات، يقول عليه الصلاة والسلام: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" رواه ابن ماجة، وقال صلى الله عليه وسلم: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر"رواه الإمام أحمدُ والترمذي.
وقال عبد الله بن شقيق رحمه الله: ((كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة)) رواه الترمذي.
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن تارك الصلاة كافر، وكذلك كان رأيُ أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، أن تارك الصلاة عمداً من غير عذرٍ حتى يذهب وقتها كافر.
وقال الإمام ابن المبارك: من أخَّر صلاة حتى يفوت وقتها من غير عذر فقد كفر.
أيها الناس: أمر الصلاة عظيم، وكثيرٌ من الناس يُضيعها، وذلك بـتأخيرها عن وقتها، وصدق الله إذ يقول:{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلاَة وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} قال عمر بن عبد العزيز وغيره من العلماء عند تفسير هذه الآية: إنما أضاعوا المواقيت، ولو كان تركاً لكان كفرا، وفي روايةٍ: أخروا الصلاة عن ميقاتها، ولو تركوها كفروا.
وقال المصعب بن سعد بن وقاص: قلت لأبي يا أبتاه: أرأيت قول الله: {الذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} أيُّنا لا يسهوا، أيُّنا لا يُحدّثُ نفسه؟ قال: ((إنه ليس ذلك، ولكنه إضاعة الوقت)) ولذلك في البخاري قال عليه الصلاة والسلام: "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
أيها المسلمون: كم من الناس لا يصلي؟، وكم منهم يصلي تارة، ويتركُ تارات؟، وبعضهم لا يقرب المساجد إلا في الجمع والأعياد والمناسبات، وبعضهم يصلي ولكن في بيته، وكثيرٌ من هؤلاء، يضيعون الأوقات، مجالسُ عامرة، ولكنها في غير عَمَار، وسهراتٌ مطوَّلة، ولكنها دمار، يصلون الفجر عند ارتفاع النهار، غفلةٌ ما بعدها غفلة :{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُود فَلَا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قال ابن عباس: كانوا يسمعون الأذان والنداء للصلاة، ثم لا يُجيبون.
وقال كعب الأحبار: والله ما نزلت هذه الآية، إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرٍ قَالُواْ لَـمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ}.
أيها المسلمون: أما سمع الناس، قول نبيهم عليه الصلاة والسلام: "لا يزال قومٌ يتأخرون عن الصف الأول، حتى يؤخرهم الله يوم القيامة" وفي روايةٍ: "حتى يؤخرهم الله في النار" هذا أيها المسلمون، في الذي يتأخر عن الصف الأول، فكيف بمن يتأخرُ عن الجماعات؟!! يقول عليه الصلاة والسلام: "لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعهم الجماعات" وفي روايةٍ: "الجمعات، أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين".
ولذلك قال إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل، يتهاون في التكبيرة الأولى، فاغسل يدك منه.
أيها المؤمنون: الناس عن حظهم ساهون، وبدنياهم مشتغلون، النظر قاصر، والإيمان فاتر، يقول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين : "لو أن رجلاً دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه" والعرق: العظم إذا غُيِّب منه أكثر اللحم، والمرماتان: ما بين ظلفَيِ الشاة، "لو أن رجلاً دعا الناس إلى عرق أو مرماتين لأجابوه" وفي رواية عند مسلمٍ: "لو علم أحدهم أنه يجد عظماً سمينا لشهدها" وهم يُدعون إلى هذه الصلاة في جماعة فلا يأتونها، ويقول عليه الصلاة والسلام: "لقد هممت أن آمر رجلاً فيُصلي بالناس، ثم أنصرف إلى قوم سمعوا النداء فلم يُجيبوا، فأضربُها عليهم نارا، إنه لا يتخلف عنها إلا منافق".
يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (لأن يمتلأَ أُذنُ ابن آدم رُصاصاً مذابا، خيرٌ له من أن يسمع المنادي ثم لا يُجيبه)، وثبت عن جمعٍ من الصحابة أنهم قالوا: ((من سمع النداء فلم يأته لم تُجاوز صلاته رأسَه إلا من عذر)).
أيها الناس: إن قدر الصلاة عظيم، تهون في مقابلها الدنيا، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((خرج عمر رضي الله عنه إلى بستان له، فرجع وقد صلى الناس العصر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، فاتتني صلاةُ العصر في جماعة، أُشهدكم أن حائطي على المساكين صدقة، لتكون كفارةً لما صنعت)).
أيها الناس: أتدرون كم قيمة هذا الحائط والبستان، الذي جعله الفاروق كفارةً لترك صلاة واحدة، كانت مائتي ألف درهم فضة.
وكان ابن عمر، إذا فاتته صلاة الجماعة، صام يوماً وأحيا ليله، وأعتق رقبة.
ولذلك كان الحسن يقول: (إذا فاتت أحدَكم صلاة الجماعة، فليسترجع فإنها مصيبة، أي: فليقل إنا لله وإنا إليه راجعون).
وعلى هذا الأمر، درج السلف الصالح، يقول حاتم الأصم: فاتتني صلاة الجماعة، فعزاني أبو إسحاق البخاري، ولو مات لي ولدٌ لعزاني أكثر من عشرة آلاف، لأن مصيبة الدين، أهون عند الناس من مصيبة الدنيا، إلا من رحم الله.
نعم أيها الناس: إذا هانت على الإنسان صلاته، فأي شيءٍ يعزُّ عليه من دينه.
يقول وكيع بن الجراح: إذا رأيتم الرجل، تفوته صلاةُ الجماعة، ولا يهمه ذلك، فاغسلوا أيديكم منه.
وقال: وكان الأعمش قريباً من سبعين، أي من سبعين سنة، لم تفته التكبيرةُ الأولى.
قال: وقد اختلفتُ إليه أكثر من ستين سنة، فما رأيته يقضي ركعة.
وكان إبراهيم بن ميمون الـمُرمُزي، إذا رفع المطرقة، فسمع النداء فلم يردها.
وقال سعيد بن المسيَّب: ما أذن مؤذنٌ منذ ثلاثين سنة، إلا وأنا في المسجد.
{رجالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَّشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
يقول عليه الصلاة والسلام: "من صلى لله أربعين يوماً في جماعة، يُدركُ التكبيرة الأولى، كُتب له براءتان، براءةٌ من النار، وبراءة من النفاق" رواه الإمام الترمذيظ
يقول محمد بن سماعة: مكثتُ أربعين سنة، لم تفُتني التكبيرةُ الأولى، إلا يوماً واحدا، ماتت فيه أمي، ففاتتني صلاةٌ واحدة في جماعة.
فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء، أسأنا به الظن)) أي: أنه دخل في زمرة المنافقين.
وقال الإمام عطاء رحمه الله: كنا نسمع أنه لا يتخلف عن الجماعة إلا منافق.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبـــــة الثانيــة:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
عباد الله: اعلموا أن الصلاة أمرها عظيم، أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوماً المسجد، فرأى في القوم رِقة، فقال: "إني لأَهُمُّ أن أجعل للناس إماما، ثم أخرج فلا أقدر على إنسان يتخلف عن الصلاة في بيته، إلا أحرقته عليه" فقام ابن أم مكتوم، فقال: ((يا رسول الله، إني رجلٌ ضرير البصر، شاسع الدار، بيني وبين المسجد نخلاً وشجرا، ولا أقدر على قائد كل ساعة)) وفي رواية قال يا رسول الله: ((إن المدينة كثيرة الهوام والسباع، وأنا كما تراني، قد دبرت سني، ورق عظمي، وذهب بصري، ولي قائدٌ لا يُلايُمني، فهل تجد لي رخصة أصلي في بيتي الصلوات؟)) قال: "هل تسمع المؤذن في البيت الذي أنت فيه؟" قال: ((نعم يا رسول)) قال: "ما أجد لك رخصة"
وقال صلى الله عليه وسلم: "ولو يعلم هذا المتخلف عن الصلاة في جماعة، ما لهذا الماشي إليها، لأتاها ولو حبواً على يده ورجليه" رواه الإمام أحمد.
عباد الله: هذه أعذار هذا الشيخ الأعمى الهرم، ومع هذا لم يُرخَّص له الصلاة في بيته، ستة أعذار، فبأي حجة يتخلف المبصر القوي السليم، وبأي جواب سيُجيب إذا عُرض على ربه، ألم يقل الرسول عليه الصلاة والسلام: "لينتهين رجال عن ترك الجماعة، أو لأحرِّقن بيوتهم" رواه ابن ماجة.
وعند مسلمٍ قال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لو أنكم صليتم في بيوتكم، كما يُصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتُنا وما يتخلفُ عنها إلا منافق معلوم النفاق)).
وفي المقابل، قال صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله" أي في عهده، أي كأنه عاهد الله، ألا يصيبه أحدٌ بسوء،"من صلى صلاة الصبح فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء" أي لا تتعرضوا لمن صلى الصبح، لأنه في عهد الله، فمن تعرَّض له فقد خَفَرَ عهد الله، ومن خفر عهد الله فالله ليس بتاركه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: " فلا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من يطلبه من ذمته بشيء فإنه من يطلبه من ذمته بشيء يدركه، ثم يكبُّه على وجهه في نار جهنم" رواه الإمام مسلم.
فالصلاة الصلاة أيها الناس، عظُمت الوصيةُ بها، تقولُ أم سلمة رضي الله عنها: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقول في مرضه الذي تُوفيَ فيه: "الصلاةَ الصلاة، وما ملكت أيمانكم" فمازال يقولُها حتى ما يفيض لسانُه)) رواه ابن ماجة.
بل قال عليه الصلاة والسلام: "استقيموا ولن تُحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يُحافظ على الوضوء إلا مؤمن" رواه الإمام أحمد وغيره :
{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
الدعاء ...