الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد:
عباد الله، فإنه قد بلغ قمة الكمال والسمو من الرجال عددٌ كثير لكن لم يبلغها من النساء إلا قلة منهم عائشة بنت أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنها وعن أبيها- هذه المرأة التي فاقت التي فاقت علمًا وحلما، وخلقًا وأدبًا، وفصاحةً وشجاعة كثيرًا من الرجال فضلًا عن بنات جنسها، لن يوفيها الكلام مهما ارتقى به البيان، ولن توفيها الصفحات مهما بلغت من الأعداد، لكن سنعرض نموذج من حياتها هي كفيلةٌ إلى الدلالة على ما وراءها من الجلال والعظمة.
أما أبوها فهو أبو بكر الصديق عبد الله بن عثمان خير البشرية بعد النبيين والمرسلين، صاحب رسول الله ﷺ، ورفيقه في الغار لا ثالث لهما إلا الله، واسى رسول الله ﷺ بنفسه، وأهله، وماله، الرجل الذي لو كان للنبي ﷺ أن يتخذ خليلًا لاتخذه خليلًا.
هذا أبوها فما ظنك بفتاةٍ نجيبة تنشأ في بيت أبي بكرٍ بيت العلم، والفصاحة، والتقوى، والعفة، وكل خصلةٍ طيبةٍ حميدة.
وأما قصة زواجها من النبي ﷺ فإنه قد جاءه جبريل في منامه ثلاث ليالٍ، وفي يده خرقةٍ من حريرٍ، وفي كل مرةٍ يكشفها النبي ﷺ فيجد فيها عائشة، ويقول له الملك: هذه امرأتك، فيقول النبي ﷺ: ((إن يك هذا من عند الله يمضه)) أي؛ سيكون.
ولما توفيت خديجة، ولم يكن عنده غيرها عُرضت عليه امرأتان ثيبٌ وبكر؛ أما الثيب فسوده بنت زمعة -رضي الله عنها- أم المؤمنين إحدى السابقات إلى الإيمان، وأما البكر فعائشة -رضي الله عنها-، وكانت صبيةً فعقد عليها، ولم يدخل بها، و لما هاجر إلى المدينة، وبلغت من العمر تسع سنين دخل بها النبي ﷺ مرجعه من غزوة بدر غالبًا منتصرًا، فعاشت مع النبي ﷺ تسع سنين حتى توفاه الله إليه ولها من العمر -رضي الله عنها- ثمانِ عشرة.
وأما عن حب النبي ﷺ لعائشة فقد أحبها -عليه الصلاة والسلام- حبًا عظيمًا ما أحب واحدةً من نسائه كما أحبها إلا أن تكون خديجة -رضي الله عنها-، وكان النبي ﷺ يعلن عن حبه لها ولا يُسره، ويظهره ولا يكتمه، حتى شاع أمره بين ضراتها، وبين أهل المدينة رجالها ونسائها، فهذا عمرو بن العاص يسأل النبي ﷺ فيقول من أحب الناس إليك؟ فيقول: ((عائشة)) قال من الرجال؟ قال: ((أبوها)).
وكان الناس يهدون النبي ﷺ الهدايا، ويختارون يوم عائشة الذي يكون فيه الرسول ﷺ عندها لعلمهم بحب النبي ﷺ لها، ولما مرض النبي -عليه الصلاة والسلام- مرض الموت، وكان يدور بين نسائه مع شدة مرضه فكان يقول: ((أين أنا غدًا أين أنا غدًا؟)) يستعجل يوم عائشة فأذنَّ له -رضي الله عنهن- أن يُمرّض عندها لِمَ علمن من حبه لها -رضوان الله عليهن أجمعين-.
وكان من أسباب شدة حبه لها: ما كانت عليه من الخير، والصلاح، والكمال، وقد أشار إلى شيءٍ من ذلك حين قال لبعض نسائه -عليه الصلاة والسلام-: ((ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن إلا في لحاف عائشة))
وأقَرَأَها النبي ﷺ سلام جبريل عليها –عليه السلام-، وقد ظهر شيء ٌكثيرٌ من فضلها بعد موته ﷺ ولو لم يكن إلا نشرها للعلم نشرًا لا يشاركها فيه غيرها من النساء لكفى به فضلاً.
وقد حبس النبي ﷺ الجيش مرةً من أجلها، ولا ماء معهم، وذلك أنها أضاعت عقدًا لها، ولما حضرت الصلاة، ولا ماء مع القوم أنزل الله آية التيمم ببركتها، فجعل الله بسببها للمسلمين خيرًا كثيرًا.
وأما عن ابتلاءها -رضي الله عتها- بحادثة الإفك فإنها محنةٌ عظيمة ابتليت بها، وطال أمدها، ولكن جاءت العاقبة حميدة والحمد لله فقد اتهمت هذه العفيفة الطاهرة زوجة النبي ﷺ في عرضها، وشاعت التهمة، وصارت بعض الألسن تلوكها، وملخص الحادثة أن عائشة -رضي الله عنها- كانت مع النبي ﷺ في بعض غزواته، وفي مرجعهم، وقد قربوا من المدينة ذهبت للخلاء بعيدًا عن الجيش فلما أتت رحلها، وإذا بها قد فقدت عقدًا لها فرجعت مرة أخرى تلتمسه، وتأخرت فلم ترجع إلا وقد ارتحل الجيش، ولم يبق أحد فجلست في مكانها -رضي الله عنها- حتى غلبها النوم ولم تقم إلا على صوت رجلٍ يقول: (إنا لله وإنا إليه راجعون) فاستيقظت، وخمرت وجهها، وعرفها؛ لأنه كان رآها قبل نزول الحجاب فأناخ راحلته، فركبت، وقاد الراحلة وما كلمها ولا كلمته حتى وصلا المدينة فلما رأى بعض المنافقين هذا المنظر وجدوها فرصةً للطعن فيها من أجل أن يطعنوا في رسول الله ﷺ، وكانت مريضة فلم يخبرها أهلها بالشائعة؛ شفقةً عليها، ولم يكلمها النبي ﷺ بشيء لكنها شعرت بأن النبي ﷺ لا يلاطفها كسابق عهده، وبعد شهر بلغها الخبر فاستأذنت النبي ﷺ أن تذهب إلى أهلها فأذن لها فسألت أمها فأكدت لها الخبر فبكت -رضي الله عنها- تلك الليلة، وما نامت ثم أصبحت، وظلت يومها باكية، ودخل عليها الليل وهي تبكي حتى كاد كبدها أن ينفلق من البكاء، وجاءتها امرأةٌ من الأنصار تبكي معها وأبوها وأمها جالسان عندها فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم النبي ﷺ ثم جلس عندها وما جلس عندها منذ تكلم الناس وقال لها فيما قال: ((إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه)) فجف دمعها وقالت: لئن قلتُ إني بريئة والله يعلم إني بريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكم بأمرٍ والله يعلم أني منه بريئة لتصدقوني والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا قول أبي يوسف: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} ثم اضطجعت على فراشها، عند ذلك جاء الفرج من الله -سبحانه وتعالى-، ونزل الوحي في شأنها على النبي ﷺ فلما انفصل عنه الوحي ضحك نبينا -عليه الصلاة والسلام-، وكان أول ما قال: ((يا عائشة أما والله لقد برأك الله)) فقالت أمها: قومي إليه فقالت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله وأنزل الله فيها آياتٍ من سورة النور {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}[النور:11] آياتٍ تتلى ببراءتها إلى قيام الساعة -رضي الله عنها وأرضاها- وجزاها على ما أوذيت وصبرت خير الجزاء.
عباد الله، إن عائشة -رضي الله عنها- لم تبلغ ما بلغته بعد فضل الله عليها، وتوفيقه لها إلا بخصالٍ حميدة قل من تتهيأ له فقد رزقها الله علمًا واسعًا، فكانت أعلم نساء هذه الأمة دون منازع، حتى كانت مرجعًا لكبار أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام-.
عباد الله:
بعد حياةٍ حافلةٍ بالتقوى والصلاح، ونشر العلم وبذله معمورةٍ بالعبادة، والقدوة الصالحة مرضت مرض الموت في المدينة، وعمرها ثلاث وستون سنة وأشهر، وقبضها الله إليه راضيةً مرضية وذلك في السابع عشر من شهر رمضان سنة 57هـ، ودفنت بمقبرة البقيع في الليل.
وبذلك طُويت صفحة من صفحات المجد، والمُثُل العليا التي قل أن تتكرر في تاريخ البشرية، ماتت عائشة زوج النبي ﷺ في الدنيا، وزوجته في الجنة، ولكن علمها لم يمت، وسيرتها لم تدفن.
بل لا تزال سيرتها نموذجًا يحتذى، ولا زال علمها ميراثًا يروى، وستبقى محتلة أعلى مقامات التقدير، والإجلال، والإكبار في قلب كل مؤمنٍ محب لله ولرسوله، ولآل بيته ما بقي الليل والنهار.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
فإن للصديقة بنت الصديق أحاديث كثيرة عن رسول الله ﷺ تدل على فضلها، ومكانتها، ومنزلتها الرفيعة عند الله، وعند رسوله، والمؤمنين، فيجب حفظ كرامتها، ومنزلتها فإنها أمنا أم المؤمنين، وعِرض رسول الله ﷺ، فالطاعن فيها طاعنٌ في رسول الله -عليه الصلاة والسلام-، والمتهم لها متهمٌ لعِرض رسول الله -عليه الصلاة والسلام-.
ولكن أقوامًا أخزاهم الله فلم يؤمنوا فيما جاء في كتاب الله، ولم يؤمنوا بما ثبت عن نبيِّنا -عليه الصلاة والسلام-، وجعلوا كلَّ ذلك وراء ظهرهم، وذهبوا يطعنون فيها -رضي الله تعالى عنها- ولعنهم، وأخزاهم في الدنيا والآخرة.
جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: ((من سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
ويقول الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- إمام أهل السنة والجماعة: [إذا رأيت رجلًا يذكر أحدًا من أصحاب النبي ﷺ بسوء فاتهمه على الإسلام].
ويقول أبو زرعة -رحمه الله-: [إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب النبي ﷺ فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول ﷺ حقٌّ، والقرآن حقٌّ وإنما أدَّى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب النبي ﷺ، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسُّنة والجرح بهم أولى وهم زنادقة].
ويقول يحيى ابن معين -رحمه الله تعالى-: [كلُّ من شتم عثمان أو طلحة أو أحدًا من أصحاب النبي ﷺ فإنه دجَّال لا يُكتب عنه، وعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين]
فأحِبُّوا عباد الله أمهات المؤمنين، وصحابة رسول الله ﷺ أجمعين، وآل بيته -رضي الله تعالى عنهم- ووالوهم، وعادوا من يبغضهم، ويسبهم، فهذه علامة الإيمان والمحبة الصادقة الصالحة.
الدعاء ...