الإيمان بالرسل، وبدعة الاحتفال بالإسراء والمعراج

الشيخ خالد بن ضحوي الظفيري

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد:

عباد الله:
إن من أركان الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ- أن تؤمن بأنبيائه ورسله، ويكون بالتصديق الجازم بأن الله قد بعث في كل أمةٍ رسولًا يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والكفر بما يُعبد من دونه، وأن جميعهم صادقون مصدَّقون بارون راشدون كرامٌ بررة، أتقياء أمناء هداةٌ مهتدون، وأنهم بلغوا رسالات الله جميعًا، وأن الله اتخذ إبراهيم خليلًا، واتخذ محمدًا ﷺ خليلًا، وكلَّمة موسى تكليمًا، ورفع إدريس مكانًا عليًا، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، وأن الله فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجاتٍ على بعض، وأن محمد ﷺ هو سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنَّ دعوتهم من أولهم إلى آخرهم اتفقت في أصل الدين وهو توحيد الله -سبحانه وتعالى- بإلهيته وربوبيته وبأسمائه وصفاته فجميع الرسل والأنبياء مسلمين لله رب العاملين.

يقول -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19].

وقال -سبحانه-: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].

وقال تعالى عن نوحٍ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:72].

وقال تعالى عن موسى: {يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} [يونس:84].

وقال تعال عن سيلمان على لسان بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44].

وعدد الرسل كما جاء في الحديث (ثلاثمائة وخمسة عشر) رسولًا، والأنبياء (مائةٌ وأربعة وعشرون ألفًا) ثبت ذلك في الأحاديث عن رسول الله ﷺ من حديث أبي أُمامة، ومن حديث أبي ذرٍ -رضي الله عنهما-.

وقد سمَّ الله -عزَّ وجلَّ- لنا جملةً منهم كآدم ونوح، وإدريس وهود، وصالح وإبراهيم، وإسماعيل وإسحاق، ويعقوب ويوسف ولوط، وشعيب، ويونس وموسى وهارون، وإلياس وزكريا، ويحيى واليسع وذا الكفل، وداود وسليمان وأيوب، وذكر الأسباط جملة، وعيسى ومحمد صلى الله وسلم عليهم أجمعين.

وقص علينا من نبأهم وأخبارهم ما فيه كفايةٌ وعبرةٌ وعظة. {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164].

فنؤمن بجميعهم تفصيلاً فيما فصل الله، وإجمالاً فيما أجمل الله.

ونؤمن بأن جميع الرسل والأنبياء بشرٌ مخلوقون ليس لهم من خصائص الربوبية شيء.

ونؤمن بأنهم عبيدٌ من عباد الله أكرمهم الله -عزَّ وجلَّ- بالرسالة، ووصفهم بالعبودية في أعلى مقاماتها، وفي سياق الثناء عليهم قال -عزَّ وجلَّ-: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:11].

ونؤمن بأن الله تعالى ختم الرسالات برسالة محمدٍ ﷺ فأرسله إلى جميع الثقلين الإنس والجن، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [سبأ:28].

وأخبر تعالى أنه أخذ العهد على النبيين إن أدركوا زمن محمدٍ ﷺ أن يتبعوه وفي هذا دليلٌ واضح على أن رسالته ﷺ خاتمة الرسالات، وأنها ناسخةٌ لكل رسالةٍ مضت. يقول -عزَّ وجلَّ-: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:81-82]

ولذلك فإن عيسى -عليه الصلاة والسلام- لما ينزل في آخر الزمان فإنه يحكم بشريعة محمدٍ ﷺ.

وقد بَشَّر الرسلُ -صلوات الله وسلامة عليهم أجمعين- برسالة محمد ﷺ، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} [الصف:6]، وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال: أن رسول الله ﷺ قال: ((والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لاَ يَسْمَعُ بِي أحد من هذه الأمة لا يَهُودِيٌّ، وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلاَّ كانَ مِنْ أَصْحَابِ النار))

فمن كذَّب برسالة محمدٍ ﷺ فقد كفر بجميع الرسل حتى برسوله الذي يزعم أنه مؤمنٌ به متبعٌ له، قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:105]، فجعلهم الله -عزَّ وجلَّ- مكذبين لجميع الرسل مع أنه لم يسبق نوحًا رسول.

ونؤمن أنْ لا نبيَّ بعد محمدٍ ﷺ، فمن ادعى بعده النبوة فقد كفر، يقول -عزَّ وجلَّ-: {وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].

وفي صحيح مسلمٍ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: ((فُضِّلْتُ عَلَى الأَنْبِيَاءِ بِسِتّ، أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِدَا وَطَهُورًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً، وَخُتِمَ بِيَ النَّبِيُّونَ)).

ومن كذَّب برسالة أحدٍ من الأنبياء والمرسلين فقد كفر كذلك، قال -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (150) أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَاعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا}[النساء:150-151].

هذا هو عباد الله معتقد أهل السنة والجماعة في الإيمان بالرسل فتمسكوا به تكونوا من الناجين.

أقول ما تسمعون واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، ومن اتبع هداه أما بعد:

عباد الله، فلقد أجمع السلف الصالح على أن اتخاذ موسمٍ غير المواسم الشرعية من البدع المحدثة التي نهى عنها ﷺ بقوله: ((إياكم ومحدثات الأمور فإنَّ كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)).

فالاحتفال بليلة الإسراء والمعراج بدعةٌ محدثة لم يفعلها الصحابة والتابعون ومن تبعهم من السلف الصالح، وهم أحرص الناس على الخير والعمل الصالح.

يقول شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله تعالى-: [ ولا يُعرَف عن أحدٍ من المسلمين أنه جعل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها، ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمرٍ من الأمور ولا يذكرونها؛ ولهذا لا يُعرف أي ليلةٍ كانت ]

وإن كان الإسراء من أعظم فضائله -عليه الصلاة والسلام-، ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادةٍ شرعية.

بل غار حِراء الذي ابتدأ فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة لم يقصده هو ولا أحدٌ من أصحابه بعد النبوة مدة مقامه بمكة، ولا خصَّ اليوم الذي أُنزل فيه الوحي بعبادةٍ ولا غيرها، ولا خصَّ المكان الذي ابتدأ فيه الوحي ولا الزمان بشيءٍ.

وقد رأى عمر -رضي الله تعالى عنه- جماعةً يبتدرون مكانًا يصلون فيه فقال: [ ما هذا؟ قالوا: مكانٌ صلى فيه رسول الله ﷺ؛ -أي: عَرَضًا بغير قصدٍ للمكان- فقال: أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد إنما هلك من كان قبلكم بهذا فمن أدركته فيه الصلاة فليصلي وإلا فليمضي ]

يقول سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى-: [ وهذه الليلة التي حصل فيها الإسراء والمعراج لم يأتِ دليلٌ لم يأتِ في الأحاديث الصحيحة تعيينُها، وكل ما ورد في تعيينِها فهو غير ثابتٍ عن النبي -عليه الصلاة والسلام- عند أهل العلم بالحديث، ولله الحكمة البالغة في إنساء الناس لها، ولو ثبت تعيينُها لم يَجُزْ للمسلمين أن يَخُصُّوها بشيء من العبادات، ولم يَجُزْ لهم أن يحتفلوا بها؛ لأن النبي ﷺ وأصحابه -رضي الله تعالى عنهم- لم يحتفلوا بها ولم يخصوها بشيء، ولو كان الاحتفال بها أمرًا مشروعًا لبيَّنه الرسول ﷺ للأمة، إما بالقول أو الفعل، ولو وقع شيءٌ من ذلك لعرف واشتهر ولنقله الصحابة -رضي الله عنه- إلينا ] انتهى كلامه -رحمه الله-.

الدعاء ...