الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد:
عباد الله، فقد قال ربكم -جل وعلا- داعيًا لكم ومرغبًا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21]
فأبانت هذه الآية الجليلة: أن من كان يرجو الله واليوم الآخر، فإن ما معه من الإيمان، وخوف اللّه، ورجاء ثوابه، وخوف عقابه، يحثه على التأسي والاقتداء بالرسول ﷺ في اعتقاداته، وأقواله، وأفعاله، وأخلاقه.
فاقتدوا وتأسوا واهتدوا به ﷺ في جميع أموره وأحواله، لاسيما أخلاقه الشريفة الجميلة، وأدبه الرفيع العالي، فلقد كان ﷺ ذا خلقٍ عظيم عالٍ كريم، وأدب طيبٍ جليل، لا نظير له فيه ولا مثيل، شهد له بذلك ربه -سبحانه وتعالى- فقال في تقرير ذلك: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4].
وشهد له بذلك من عاشره، وخالطه، وجالسه من أصحابه، وأزواجه -رضوان الله عليهم أجمعين-.
فقد صح عن البراء بن عازب -رضي الله عنه- وأنس بن مالك -رضي الله عنه- أنهما قالا: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا)).
وصح عن سعد بن هشام -رحمه الله- أنه قال: سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقُلْتُ: أَخْبِرِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ فَقَالَتْ: ((كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ)).
وتعني -رضي الله عنها- بذلك: أنه ﷺ كان يتأدب بما جاء في القرآن من آداب طيبة، ويتخلق بما ذكر فيه من أخلاق عالية، بل إن تتميم صالح الأخلاق ومكارمها من مقاصد بعثته العظيمة، وإرساله للناس هدى ورحمة، فقد صح عنه ﷺ أنه قال: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).
فمن أخلاقه ﷺ الطيبة الجميلة: لين الجانب، واستعمال اللين مع المؤمنين، فلا يعاملهم بالخشونة والغلظة، ولا يقابلهم بالعنف والشدة والفظاظة، ولا يهينهم بالسباب والشتائم، ولا يعتدي عليهم بالأذية والضرب، بل تراه حسن المعاشرة معهم، لطيف القول إن حادثهم، رفيقًا بهم، سهلًا لا يُثقل عليهم، سمحًا لا يغمهم، وقد وصف الله -عز وجل- خُلقه هذا ممتنًا عليه فقال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159].
وهذا خادمه أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- قد خدمه سنين عديدة ثم يقول في شأنه معه: ((خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟ وَلَا عَابَ عَلَيَّ شَيْئًا قَطُّ)).
وفي لفظ آخر أنه قال: ((خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَشْرَ سِنِينَ، لَا وَاللَّهُ مَا سَبَّنِي سَبَّةً قَطُّ)).
وصح عنه -رضي الله عنه- أنه قال: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا، فَأَرْسَلَنِي يَوْمًا لِحَاجَةٍ، فَقُلْتُ: وَاللهِ لَا أَذْهَبُ، وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيُّ اللهِ ﷺ، فَخَرَجْتُ حَتَّى أَمُرَّ عَلَى صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السُّوقِ، فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ﷺ قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي، قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ ﷺ، فَقَالَ: يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ، أَنَا ذاهب يَا رَسُولَ اللهِ)).
وصح عن أبي عبد الله الجَدلي -رحمه الله- أنه قال: [ سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا فِي الأَسْوَاقِ -أي؛ يرفع صوته في الأسواق-، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)).
وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ، أَوْ مَنْ تُحَرَّمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ لَيِّنٍ قَرِيبٍ سَهْلٍ)).
ومن أخلاقه ﷺ الطيبة الجميلة: الإعراض عن الجاهلين والسفهاء إذا خاطبوه بما لا يليق من القول، أو عاملوه بما لا يحسن من المعاملة، فيحتمل أذاهم، ولا يلتفت إلى ما قالوا أو فعلوا، ولا يعاملهم بالمثل، ولا يمتنع من مقابلتهم بعدها بالإحسان والعدل، امتثالا لأمر ربه -سبحانه وتعالى- حيث قال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}[الأعراف:199].
فأمر اللّه تعالى في هذه الآية الجليلة: أن يُقابَل الجاهل بالإعراض عنه، وعدم مقابلة جهله بجهل مثله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه أو اعف عنه، ومن تكلم فيك غائبًا أو حاضرًا فعامله بالقول اللين، ومن هجرك وترك خطابك فطيِّب له الكلام، وابذل له السلام.
قد قال سبحانه في وصف عباده المتقين المخلَصين: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63] أي: خاطَبوهم بخطابٍ طيبٍ جميل يَسْلمون فيه من الإثم، ويَسْلمون من مقابلة الجاهل بجهله، وهذا مدح لهم، بالحلم الكثير، ومقابلة المسيء بالإحسان، والعفو عن الجاهل، ورزانة العقل الذي أوصلهم إلى هذه الحال.
قد صح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- أنها قالت: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، لَا امْرَأَةً، وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ، فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)).
وصح عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: ((كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الحَاشِيَةِ -أي؛ عبائةٌ غليظة-، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ البُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ)).
وصح عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: ((مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُنْتَصِرًا مِنْ مَظْلِمَةٍ ظُلِمَهَا قَطُّ)).
وقد قال الله -عز وجل- مرغبًا في هذا الخلق الطيب الجميل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:34-35].
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن من تقواه أن تتخلقوا بكل خلقٍ جميل، وتنزهوا أنفسكم عن كل خلقٍ رذيل، فإن العبد لا يزال يترقى بأخلاقه العالية، ويرتفع بآدابه السامية، ويثقل ميزانه بمكارمه، ولا يزال يسفل في أخلاقه، وينزل في آدابه، وينحط في مكارمه، حتى يهبط في أسفل الدرجات، وتثقل صحيفته بالآثام والخطيئات.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
عباد الله:
فتعلمون ما للأدب الجميل، والخلق الحسن الرفيع، من آثار طيبة جليلة، وتعلمون كثرة النصوص النبوية المرغبة في حسن الأخلاق وتتميمها، فقد ثبت أن أحد الصحابة طلب من النبي ﷺ أن يوصيه فقال ﷺ كما في حديث أبي ذر: ((اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)).
وصح أن رجلاً سأل النبي ﷺ عن البر والإثم، فأجابه بقوله: ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)).
وثبت أنه ﷺ أخبر عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، فقال ﷺ: ((تَقْوَى اللَّهِ، وَحُسْنُ الخُلُقِ)).
وثبت عنه ﷺ أن أحسن الناس أخلاقًا من خيار الأمة، فقال ﷺ: ((إِنَّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحْسَنَكُمْ أَخْلاَقا)).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((مَا شَيْءٌ أَثْقَلُ فِي مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَنٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَيُبْغِضُ الفَاحِشَ البَذِيءَ)).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ)).
وقال -عليه الصلاة والسلام-: ((أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَسَكَتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَهَا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ الْقَوْمُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، فقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: أَحْسَنُكُمْ خُلُقا)).
وبيَّن منزلة حسن الخلق من الإيمان، فقال: ((أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقا)).
بل إنَّ مَن حَسُن خلقه موعود ببيت في أعلى الجنة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّاً، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحاً، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ)).
وثبت أن من دعاءه -عليه الصلاة والسلام- الذي كان يدعو به ربه فيقول: ((اللهُمَّ أَحْسَنْتَ خَلْقِي، فَأَحْسِنْ خُلُقِي)).
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
الدعاء ...