الدور الثلاثة

الشيخ عبدالسلام الشويعر

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ . «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً»، «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ۝ يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم و ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما»

أما بعد عباد الله :

فإن المرء إذا تفكر في حياته، ونظر في مآلاته وجد أنه سيمر لا محالة بدور ثلاث، وهن: الدار الدنيا ، ودار البرزخ بعد وفاته، والدار الآخرة بعد البعث، وقد ذكر الله هذا التنقل بين هذه الدور فقال سبحانه : «قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل».

فيوم القيامة يعترف الناس جميعاً بالدور الثلاث؛ لأنهم عاشوها وعرفوها؛ لذلك قالوا: «فأعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل؟» وما ذاك بنافعهم، وأما من أيقن بها في الدنيا وعمل لها فهو المؤمن حقا.

عباد الله:

إن لابن آدم ثلاثة دور مختلفة في هيئتها وكنهها وحقيقتها:

فالدار الأولى: هي الحياة الدنيا وهي محل التكليف، ومقر الامتحان، وهي أقصر الدور الثلاثة أمداً، وعليها تبنى مكانة العبد في الدور بعدها.

ثم تليها الدار الثانية: دار البرزخ حينما يموت الشخص وتقبض روحه، فينتقل إلى دار برزخ -أي فاصلة بين الدنيا والآخرة- ، وقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا مات الرجل فقد قامت قيامته»، أي انتهت حياته الدنيا، وانتقل لحياة أخروية قبل الدار الآخرة، وهي دار البرزخ.

وفي هذه الدار يُعذب المرء أو يُنعم؛ كما صح النقل المتواتر عن النبي ﷺ في عذاب القبر ونعيمه، وقد قال الله عز وجل عن فرعون وقومه: «النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب» ، فذكر أنهم يعذبون بالنار قبل قيام الساعة؛ أي في البرزخ وفي قبورهم، وهذه الدار أطول من سابقتها، ولكنها تمر مراً سريعاً.

وأما الدار الثالثة: فإنه دار البقاء، والدار الآخرة، والمرء فيها إما إلى جنة وإما إلى نار، ولا وسط بين ذلك.

وهذه الدار هي الباقية، وما عداها منتهي، وهي أطول الدور، وأهمها.

عباد الله :

لن أصف اليوم هذه الدور، ولن أذكر نعتها وما فيها، وإنما سأذكر وقفة تأمل واعتبار في مقدم المرء لهذه الدور وحاله عند رؤيته لدار غير داره السابقة، وما يكون فيه من وحشة وهيبة، وما يعتريه من روع ومخافة، فهذه الأوقات الثلاثة أشد ما تكون على الإنسان، حين ينتقل في كل منها من عالم إلى آخر، ومن حال لثان.

فالمرء ينشأ أولا في الرحم حيث لا بصر يدركه، ولا يد تناله، اعتاد طعاما يتناوله من غير فِيه [أي: فمه]، لا يكدح ولا يعمل، حياته مختلفة وحركته ساكنة، فإذا خرج من بطن أمه فَقَدَ دارا كان قد أَلِفَها، وحياة قد عرفها، وصار إلى دار أخرى لا يدري مابين يديه فيها، ولذلك وحشة فلذا يستهل صارخا كهيئة الخائف إذ خرج من بين الأحشاء وفارق لينها وضمها، وانتقل إلى هذه الدار يكابد همومها وغمها، وهذه هي أول وحشة يحسها المرء في أول الدور، ثم إذا فارق دار الدنيا بقبض روحه، انتقل من دار البناء إلى عالم البرزخ (برزخ بينها وبين دار القرار)، فما ترى أحداً قد عايشها إلا وقد شخص بصره، وفغر فوه [ أي: فمه ]، ومد يديه، كأنه مقبل على شيء مهول غريب وهو كذلك فإن أول من يأتيه في مستقبل هذه الدار صورة عمله صالحاً كان أو طالحاً.

وقد ثبت في ( المسند) أن النبي ﷺ قال: «لا تمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد».

وجاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (والله الذي لا إله غيره لو أن لي ما على الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع). وهذه ثاني الدور.

ثم يبقى في دار البرزخ ما شاء الله، فإذا نُفخ في الصور النفخة الثانية، وقام الناس لمشهد عظيم، ومقام مهيب، هذاك اليوم الذي قال الله فيه: « إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد».

عباد الله:

إن العبد في هذه المواضع الثلاث يقدم وحيداً فريداً لا يعلم ما سيكون عليه حاله، وما ينتهي إليه فيها مآله، فلهي أشد الأوقات التي تمر على العبد وأظناها وأوحشها: قال سفيان بن عيينه: (أوحش ما يكون الخلق في ثلاثة مواطن: يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه، ويوم يموت فيرى قوما ما شاهدهم قط ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم).

ولما كانت هذه المواطن الثلاث أشد ما تكون على ابن آدم أَمَّن الله أنبياءه فيها، وسلام عليهم، فقال عن يحيى: «وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا» ، وأنطق الله عيسى في مهده فقال: «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا».

فأكثر الناس أمنا في هذه المواطن أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أشبههم بهم هدى وامتثالاً.

عباد الله:

إن موضعاً من هذه الأوقات الثلاثة مررنا به جميعاً ولكننا نسيناه، والثاني رأيناه في عدد من أحبابنا ومعارفنا وسيمر علينا، والثالث لم يحن وقته لأحد، ولا يعلم بآنه [ أي: بوقته ] إلا الله.

ولقد جعل الله هذه المواطن بعضها مذكراً ببعض، كما قال سبحانه: «كما بدأكم تعودون» ، وقال سبحانه: «الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفاً وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير ۝ ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ۝ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون ۝ فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون ۝ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون»

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واقتفى أثره ومن استن بسنته واهتدى بدعوته إلى يوم الدين، أما بعد عباد الله :

فاتقوا الله حق التقوى وتمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ، ومن شد شد في النار.

واعلموا عباد الله أن خير الكلام كلام الله جل وعلا ، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله رسول الله ﷺ ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

ثم صلوا وسلموا ...