الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ((٧٠)) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أَيُّها المؤمِنُونَ:
تمرُّ الأيامُ وتمضي سريعًا؛ يأتي شهرُ رمضانَ وتنقضي أيَّامُهُ؛ يومٌ يَتْبَعُهُ الآخَرُ؛ وكأنَّهُ عِقْدٌ ثمينٌ قد انْفَرَطَ خَيْطُهُ، فتساقطت حَبَّاتُهُ الواحدةُ تِلْوَ الأخرى.
وصَدَقَ ربُّـنَا حـين قـال: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة: 184].
والكَيِّسُ مَنْ أَدْرَكَ الركبَ، ولَحِقَ بالسابقينَ المقرَّبِين، الذين أدركوا قيمةَ هذا الشهرِ الكريمِ؛ فسارعوا إلى جَنَّةٍ ورِضْوَان، ومغفرةٍ من الرحمن، وعِتْقٍ من النِّيران.
وسُرْعانَ ما تأتي الأيَّامُ العَشْرُ الأواخرُ من شهر رمضانَ وهي أيَّامٌ عظيمةٌ مُبَارَكَةٌ؛ أيامٌ اصطفاها اللهُ من شَهْرٍ مُبَاركٍ؛ فهي خِيارٌ من خِيَار، وشَمَّرَ فيها عن سَاعِدِ الجَدِّ سَيِّدُ الأنبياءِ والأبرار؛ أيامٌ نَزَلَ فيها خيرُ كتاب؛ تبصرةً وذِكْرَى لأولي الألباب؛ هاديًا للحائرين، ومنارًا للسائرين، أيامٌ فيها ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شَهرٍ؛ أيامُ الجدِّ والاجتهاد، وتركِ النوم والرُّقَاد؛ أيامُ مُدارَسةِ القرآنِ، والخَلْوَةِ بالرحمنِ.
فَطُوبَى لمن كان سَعِيدًا وفَطِنًا فترك ما مضى، واستبشر بما أتى، وتَرَقَّبَ هذه العَشْرَ التي لها فضائِلُ عظيمة، وخِلَالٌ كريمة، وَلْنَعْلَمْ أيها الإخوةُ أنَّ العِبْرَةَ بالخواتيم؛ وشهرُ رمضانَ ختامهُ مسكٌ؛ وفي ذلك فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ؛ فمن كانت خَاتِمَتُهُ حَسَنَةً استفاق من غَيِّه ورَقْدَتِه، وغَفْوَتِه وغَفْلَتِه؛ وعَلِمَ أن الله عز وجل غفورٌ رحيم، عَفُوٌّ كريم؛ يَمُنُّ على عباده في هذه العَشْرِ بالمغْفِرَةِ والرِّضْوَانِ، والعِتْقِ منَ النِّيرانِ، والفضائلِ الكثيرة والخَيْرَات؛ الَّتِي لو اغْتَنَمُوهَا لفَازُوا بالجنَّات.
فَهَلُمُّوا إلى ربٍّ رحيم؛ جوادٍ كريم؛ يغفر الذنب ويقبل التوب، مَنْ جاءَه بِقِرَاب الأرض خطايا لا يُشْرِكُ به شيئًا، جاءَه بمثلها مَغْفِرَةً؛ فَيَا لَهَا مِنْ مَنْزِلةٍ لا يعقلها إلا العالِـمُون، ولا يرعاها إلا المُجْتَهِدُون؛ الذين صار شعارهم في هذا الأيام: ﴿وعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84]؛ أقبلوا على الله فأقبلَ عليهم، ومشوا إليه فهَروَلَ إليهم؛ فغفر لهم الذُّنُوبَ والزَّلَّات، وبَدَّلَ بِكَرَمِهِ سَيِّئَاتِهِمْ حسنات.
فاستبشروا برحمة الله في هذه الأيام؛ فوالله لو لم تُذْنِبُوا لذهبَ الله بكم، ولأتى بخلقٍ يُذْنِبُونَ ثم يستغفرون الله فَيَغْفِرُ لهم.
إنها رحمتُهُ التي وسِعَتْ كلَّ شيءٍ؛ رحمةٌ تَكْتَنِفُ المذنبين، وتَحْنُو على المقصِّرِينَ؛ ليست محدودةً بزمانٍ أو مكان، بل يداه سبحانه مَبْسُوطَتَان؛ يَبْسُطُ يَدَهُ بالليل ليتوبَ مُسِيءُ النهار، ويبسطُ يدَهُ بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليلِ؛ فعلام التقصير والإصرارُ على الذنوب، وقد ذُلِّلَ السبيلُ إلى عَلَّامِ الغُيُوب؛ الرحمنِ الرحيمِ، الجوادِ الكريمِ؟!!
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُو الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53].
مهما كان الذنبُ صغيرًا أو كبيرا؛ عظيمًا أو حقيرًا؛ فإنه مغفورٌ لمن كان لربه بصدقٍ عائدًا، ولرحمتِه وكرمِه شاهدًا؛ فتابَ توبةً نصوحًا؛ فإن كان محسنًا زادَ لله في إحسانه، وإن كان مسيئًا تجاوزَ اللهُ عن سيئاتِه.
ولذا فإننا سَنَقِفُ مع هذه الأيَّامِ العَشْرِ وقفاتٍ؛ لعَلَّ اللهَ أن ينفعَ بها، وتكونَ خَالِصةً لوجْهِه الكرِيمِ.
الوقفة الأولى: أن خَيْرَ هذه الأمة وأفضَلَها خاتمَ الأنبياء والمرسلين، وإمامَهم كَانَ يخصُّ هذه العَشْرَ الأواخِرَ من شهر رمضانَ بما لا يَخُصُّ به غيرها، وكان يجتهد فيها أَكْثَرَ من غيرها؛ ففي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها قالت: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَواخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وإِذَا دَخَلَتِ الْعَشْرُ الْأَواخِرُ أَحْيَا لَيْلَهُ وأَيْقَظَ أَهْلَهُ وشَدَّ مِئْزَرَهُ»، وفي ذلك كِنَايَةٌ عن تَشْمِيرِهِ صلى الله عليه وسلم لِلعبادَةِ والطَّاعةِ، وتَرْكِهِ كلَّ حُظُوظِ الدُّنْيَا وأُمُورِها.
الوقفة الثانية: معَ ليلةٍ من ليالي هذه العشرِ؛ أَلَا وهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ؛ هذه الليلةُ ليلةٌ شرفها الله بنزول خير كتابٍ على خير نبيٍّ بُعِثَ لخيرِ أمَّةٍ؛ قال الله فيها: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * ومَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [الدخان: 3- 5].
فهذه الليلةُ بهذه الأوصافِ والنُّعُوتِ التي اشْتَمَلَت على الكَمَالِ والتَّمَامِ، من الفَضْلِ والجُودِ والإنْعَامِ؛ يجبُ على المُسْلِمِ أنْ يَسْعَى بِكُلِّ ما أُوتِيَ من قُوَّةٍ لتَحَرِّيهَا، وإخلاصِ العبادةِ فيها، والإكثارِ من كلِّ ما يُحِبُّهُ الرَّحْمن، ويغضبُ الشيطان، ويُقَرِّبُ إلى المَلِكِ الدَّيَّان؛ فَيَغْتَنِمُ ساعاتِها، وينقطعُ للطاعة فيها، ويَبْذُلُ كلَّ جُهْدِه أن يَكُونَ من المَقْبُولِينَ؛ الذين فَازُوا بسعادةِ الدارَيْنِ؛ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد بَشَّرَ من قامَها إيمانًا واحتسابًا بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ، قال صلى الله عليه وسلم: « مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ »، فَيَا لَهَا مِنْ غَنِيمَةٍ بارِدَة، فوائدُها آكِدَة، في الدُّنْيَا والآخِرَة، لأَصْحَابِ النُّفُوسِ الطَّاهِرَة.
ليلةٌ خيرٌ من ألف شهرٍ قد تَفَرَّغَ صاحبُها للعبادَة، وخَلَا بربِّه وقَدِ اعْتَزَلَ العبادَ على غَيْرِ العادَة؛ عِبَادَتُها تزيدُ على ثلاثٍ وثمانين عامًا، ليلةٌ نَعَتَهَا ربُّ العالمين بليلة القَدْرِ؛ فهي ليلةٌ ذات شرفٍ ومكانةٍ عاليةٍ؛ فيها تُقَدَّرُ مقاديرُ الخلق الكائنةِ إلى يَوْمِ القِيَامَة، وتَتَنَزَّلُ ملائكةُ الرحمنِ بالسَّكِينَةِ والسَّلامَة، فَيَغْشَى العبادَ رَحْمَةُ أرحم الرَّاحمينَ، وتَعُمُّهم بَرَكَةُ أَكْرَمِ الأكرمين، ولو لم يَكُنْ لهذه اللَّيْلَةِ منَ الشَّرَفِ إلَّا أنَّ اللهَ سُبْحَانه أَنْزَلَ فيها كِتَابَهُ الهاديَ إلى الطريقِ المستقيمِ؛ والنَّعِيمِ المُقِيمِ؛ لكفى بذلك فَخْرًا، وعِزًّا وزُخْرًا، ورِفْعَةً وكَرَامَة، ونجاةً وسَلَامَة، وشأنًا عَالِيًا، وقدرًا غَالِيًا.
فكيفَ وقد جَمَعَت من خِصَالِ الخَيْرِ ما لا يَعْلَمُ فَضْلَهُ إلا الله؛ ولا يَسْتَطِيعُ العقلُ القاصِرُ إدراكَ حَدِّه ومُنْتَهَاه؟!!
لذلك فقد دعا حبيبُ الحقِّ وشفيعُ الخَلْقِ؛ خيرُ مَنْ صَلَّى وقَامَ، واجْتَهَدَ في طاعة ربِّه والناسُ نِيَام؛ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى تَحَرِّي هذه الليلةِ المُبَارَكَة، والتماسِهَا في العَشْرِ الأواخِرِ مِنْ شَهْرِ رمضانَ؛ فقد جَاءَ في الحديثِ الصَّحيحِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَواخِرِ مِنْ رَمَضَانَ».
وثبت أيضًا في الحديثِ الصَّحِيحِ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قال: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَواخِرِ مِنْ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى» إلى آخرِ الحديثِ، ولهذا ذهب بعضُ العلماء إلى أن ليلة القدرِ لا تَثْبُتُ كلَّ عامٍ في ليلة معينة؛ بل تَنْتَقِلُ في الليالِي الوِتْرِيَّةِ حَسَبَ ما يُقَدِّرُهُ الله عز وجل.
وقد ورَدَ عن بعضِ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تحدِيدُ اللَّيلةِ بليلةٍ بعينها؛ فقد كان أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رضي الله عنه يُقْسِمُ أن ليلةَ القَدْرِ هي ليلةُ السَّابِع والعِشْرِينَ، وكذا ورَدَ عن ابن عَبَّاسٍ.
وقد رجَّحَ بعضُ علمائنا المُحَقِّقِينَ؛ مثل الشيخ محمد العُثَيْمِين رحمه الله أن حكمة الله قد اقتضت ألا تَثْبُتَ ليلةُ القدر في ليلة مُعَيَّنَة في كلِّ عامٍ؛ وذلك حتى يَبْذُلَ العبدُ المؤمنُ جُهْدَهُ في العشر الأواخرِ كُلِّهَا، ويُفَرِّغُ نفسَه لِلْعِبَادَة والطَّاعَة؛ فلا يتكاسلُ في ليلةٍ من هذه الليالي.
ولهذه الليلةِ علاماتٌ تَدُلُّ عليها؛ ذكرها الفقهاءُ في كتبهم؛ اعتمادًا على ما ورد في الكتاب والسنة؛ منها: كُثْرَةُ تَنَزُّلِ المَلائِكَةِ فيهَا، وفي مُقَدِّمَتِهِم جِبْريلُ عليه السلام؛ لِيَشْهَدُوا المصَلينَ في مَسَاجِدِهِم، حتَّى إِنَّ الملائِكَةَ أَكثَرُ منْ عَدَدِ الحَصَى، وهَذِهِ العَلامَةُ لا تَظْهَرُ لِلنّاس؛ قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾ .
ومنها: أَنَّ السَّلامَةَ تَكْثُرُ فيهَا بما يَقُومُ بِهِ العِبَادُ مِنْ طَاعَةِ الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾.
ومنها: «أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِهَا بَيْضَاءَ لا شُعَاعَ لها»، وفي رواية الإمام أحمد: «تَطْلُعُ الشَّمْسُ غَدَاةَ إِذْ صَافِيَةً لَيْسِ لها شُعَاعٌ».
وسَبَبُ ذَلِكَ فيما ذَكَرهُ العُلَماءُ: أَنَّ المَلائِكَةَ يَصْعَدُونَ إِلى السَّماءِ فَتَحْجُبُ أَجْنِحَتُهُم أَو أَنْوَارُهُم أَشِعَّةَ الشَّمْسِ، وذَلكَ مِنْ كَثْرَةِ تَنَـزُّلِهم تِلْكَ الَّليْلَة.
وَمِنْ صِفَاتِ تِلْكَ اللَّيْلَة أَنَّها لَيْلَةٌ صَافِيَةٌ سَاكِنَةٌ لا بَارِدَةٌ ولا حَارَّةٌ؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةٌ: «صَافِيَةٌ بَلْجَةٌ -أَيْ: مُسْفِرَةٌ مُشْرِقَةٌ- كَأَنَّ فِيهَا قَمَرًا سَاطِعًا، سَاكِنَةٌ سَاجِيَةٌ -أَيْ: فيهَا سُكُونٌ- لا بَرْدَ فيهَا ولا حَرَّ، ولا يَحِلُّ لِكَوْكَبٍ أَنْ يُرْمَى به فيهَا حَتى يُصْبِحَ».
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لِلَّـهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللـهِ، وبَعْدُ:
أَيُّهَا المؤْمِنُونَ:
الوقفة الثالثة: هي وقفةٌ مع تلك السُّنَّةِ المُؤَكَّدَةِ الَّتِي هي الاعتكافُ؛ والاعتكافُ هو لزومُ المسجدِ لطاعةٍ مخصوصةٍ في زمنٍ مخصوصٍ؛ طاعةً لله عز وجل؛ وقيل: إنه الانقطاعُ عن الخَلَائقِ والتَّعَلُّقُ بالخالق سبحانه، وقد اعتكفَ النبي صلى الله عليه وسلم واعتكف صحابته وأزواجه رضوان الله عليهم من بعده، وسيأتي الحديث عن الاعتكافِ مفصَّلًا فيما يأتي إن شاء اللهُ.
وأَمَّا الوقفة الرابعة: فَهُو الخَيْرُ الَّذِي يَمُنُّ به اللـهُ على عِبَادِهِ المؤمنينَ في آخِرِ لَيْلَةٍ من هذا الشهر المُبَارَكِ؛ الَّتِي هِيَ نِهَاية العشر بالعِتْقِ من النَّارِ؛ فإذا كان الأجيرُ في الدُّنْيَا يُوَفَّى أجرَهُ قَبْلَ أن يَجِفَّ عَرَقُهُ وهو يَعْمَلُ عِنْدَ مخْلُوقٍ مِثْلِهِ؛ فَكَيْفَ بِسَيِّدٍ يُجَازِي بِالإحْسَانِ إِحْسَانًا، وبالطاعةِ مغفرةً ورِضْوَانًا؟!!.
فهذا لا شكَّ يدفعُ العبادَ إِلَى بَذْلِ المزيدِ بِكُلِّ قُوَّةٍ وشَجَاعَة، في كل ما يُقَرِّبُ إلى اللهِ من أعمال الطَّاعَةِ؛ كالصَّلاةِ التي تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمنكَر؛ والذِّكْرِ الذي هُوَ عِنْدَ الله أَكْبَر، والدُّعَاءِ الذي هو مخُّ العبادة، وقِرَاءَةِ القرآنِ التي يحصلُ بها الشِّفَاءُ والسَّعَادَة، والصَّدَقَةِ التي جَعَلَهَا اللهُ بُرْهَانًا، وإعانَةِ مَن كانَ محتاجًا أو لَهْفَانًا، والسَّعْيِ في نَفْعِ العالمين، وكَفِّ الأذى عن المؤْمِنِينَ؛ طمعًا في الحصول على هذا المرغوبِ؛ والتماسًا لسنة الهادي المحبوبِ؛ صلَّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ، وجعلنَا مِنَ المُتَّبِعِينَ لسُنَنِهِ وأفعالِه.
الوقفة الخامسة: وإذا كانَ الحالُ كَذَلِكَ عبادَ اللهِ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْإِكْثَارِ من الدُّعَاءِ والإلحاحِ فيه؛ يقول الرسولُ صلى الله عليه وسلم: «الدُّعَاءُ هُو الْعِبَادَةُ»، ويقول: «لَا يَرُدُّ الْقَضَاءَ إِلَّا الدُّعَاءُ»، ويتأكَّدُ الدعاءُ ويُطْلَبُ في أوقاتِ الإجابةِ، والأزمانِ والأماكنِ الفاضِلَةِ؛ ومن ذلك ليلةُ القَدْرِ؛ رَوَتْ عائشةُ رضي الله عنها قالت: أَفَرَأَيْتَ يا رسولَ اللهِ إنْ وافَقْتُ لَيْلَةَ القدرِ، فما أقولُ فيها؟ قال: «اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْو فَاعْفُ عَنِّي»، فَيُكْثِرُ من هذا الدعاء، ومن غيره مما ورَدَ، قال شَيْخُنَا الشيخُ مُحَمَّدُ العُثَيْمِينَ رحمه الله: «وَلْيُعْلَمْ أَنَّ الأدعيةَ الواردةَ خَيْرٌ وأفضلُ وأَكْمَلُ من الأدعيةِ المَسْجُوعَةِ التي يَسْجَعُهَا النَّاسُ ويُطِيلُونَ فِيهَا».
الوقفة السادسة: وهِيَ وقفةٌ مُتَعَلِّقَةٌ باعتقادٍ خاطئٍ عندَ بعضِ النَّاسِ الَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ أن لِلْعُمْرَةِ في ليلة السابع والعشرين ميزة أو مَزِيَّة؛ فتجدهم يُجْمِعُونَ أمرَهم، ويتركون أهلَهُم، ويَشُقُّونَ على أنفسهم، ويُزَاحِمُونَ عباد الله المؤمنين في البلد الحرام وفي بيته العتيق؛ من أجل هذا الاعتقادِ الذي لا أصلَ له في شريعة الله سبحانه وتعالى؛ ومعلومٌ أن منِ اعْتَقَدَ أن هذه العبادةَ أو تلك مما لم يُشَرِّعْهُ اللهُ، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أنها طاعةٌ، أو عبادةٌ يُتَقَرَّبُ بها إلى الله؛ فإنهُ قد ابتدع في هذا الدين بِدْعَةً يَتَحَمَّلُ وِزْرَهَا ووزرَ من عَمِلَ بها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُو رَدٌّ»؛ وهذا ليس من أمر الله، ولا أمرِ رسوله؛ فهو مَرْدُودٌ، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنَّ منِ اعْتَمَرَ ليلة القدرِ أو ليلة السابع والعشرين فقد غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبه، بل قال في الحديث الصحيح: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»، ولم يقل صلى الله عليه وسلم: من اعتمرَ ليلةَ القدر كان عمله كحَجَّةٍ معي، ولكن قال في الحديث الصحيح: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ تَعْدِلُ حِجَّةً» وفي رواية «حِجَّةً مَعِي»، فانتبهوا أيها الإخوة وتَوَاصُوا وتَنَاصَحُوا، ودُلُّوا أُولَئِكَ الَّذِينَ ذَهَبَ بهم مُعْتَقَدُهُمْ هذا الذي هو أبعدُ ما يكون عن كِتَابِ الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يتركوا هذا العمل، ويلتزموا بما أمر اللهُ به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وبينوا فَضْلَهُ وخَيْرِيَّتَهُ من القيام في ليلة القدر في أيِّ مَكَانٍ في هذه الدنيا؛ في المَشْرِقِ والمَغْرِب، في الجَنُوبِ والشَّمَالِ، في وسَط البلادِ، وفي أيِّ جزءٍ من هذه المَعْمُورَةِ؛ إذا قامَ الإنسانُ ليلةَ القدر إيمانًا واحتسابًا مُخْلِصًا مُحْسِنًا القصدَ لله تعالى غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، ومنِ اعتمرَ في أي يومٍ أو ليلةٍ من رمضانَ مُنْذُ أن يُعْلِنَ عن دخوله حتى يُعْلِنَ عن خروجه؛ فقدِ اتَّبَعَ سُنَّةَ النبي صلى الله عليه وسلم ، وأُجِرَ بِعُمْرَةٍ تَعْدِلُ حِجَّةً، وفي روايةٍ حِجَّةً مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الوقفة السابعة: تَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ في حال ذلك المسكينِ الغافلِ أو المُتَغَافِل، الجاهِلِ أو المُتَجَاهِل، الذي تَفُوتُ عليه هذه الفرصُ والمناسباتُ دون أن يَرْفَعَ بذلكَ رَأْسًا، أو يُحْدِثَ تَوْبَةً، أو استغفارًا، وإقبالًا على الله، وانقطاعًا وتركًا للذُّنُوبِ والمعاصي والمنكَرَات، فتراه مُنْغَمِسًا فيها؛ وكأنَّهُ يعيش أبدَ الدهر، وما يعلمُ
هذا الغافل أنَّهُ إذا أصبحَ فإنَّهُ قد لا يُمْسِي، وكذلك العكسُ، فليُفِقْ مِنْ غَفْلَتِه، وليَصْحُ من سَكْرَتِه؛ فيحاسبُ نَفْسَه قبل أن يُحَاسَب، ويَزِنُ عمله قَبْلَ أن يُوزَن عَلَيْهِ؛ فإنَّ الكَيِّسَ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَمِلَ لما بعدَ الموتِ، والعاجزَ مَنْ أَتْبَعَ نفسَه هَوَاهَا، وتَمَنَّى على الله الأمانيَ؛ فحين تُوَافِيهِ المنيَّةُ يُنَادِي ومَا مِنْ مُجِيبٍ: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: ٢٤]؛ يوم لا تملكُ نفس لنفسٍ شيئًا والأمر يومئذٍ لله؛ فَلْيُبَادِرْ إلى الأعمال الصالحةِ، والتَّفَرُّغِ للعبادة؛ وخُصُوصًا في هذه الأيام الَّتِي تُضَاعَفُ فيها الحسناتُ كَمًّا، وتضاعفُ السَّيِّئَاتُ كَيْفًا.
عبادَ اللهِ؛ صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأَمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ
والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ.