تنبيه البشر إلى الوصايا العشر

الشيخ خالد بن ضحوي الظفيري

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار أما بعد:

عباد الله:
فإن الله تعالى أوصى عباده في كتابه الكريم بما فيه سعادتهم وفلاحهم، ومن أعظم تلك الوصايا نفعًا: الوصايا العشر في سورة الأنعام، المبدوءة بقوله -عز وجل-: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}[الأنعام:151]؛ لأن الله هو الذي يملك حق التحليل والتحريم، فالحرام ما حرمه الله، والحلال ما أحله الله، ووظيفة العبد في هذه الدنيا أن تكون أفعاله وأقواله ظاهرةً وباطنه على مقتضى الشرع لا على مقتضى الهوى والعادة.

[1] فالوصية الأولى: عدم الإشراك بالله -عز وجل-، بل يكون العبد موحدًا لله سبحانه وتعالى في جميع أعماله وعباداته، لا يدعو غير الله، ولا يستعين بغير الله، ولا يستغيث بغير الله، ولا يحلف إلا بالله، ولا يذبح إلا لله، ولا يصرف شيئًا من العبادة وإِنْ قَلَّتْ لغير الله، لا لملكٍ مقرب، ولا لنبي مرسل، وبدأ سبحانه بالنهي عن الشرك؛ لأنه أعظم المحرمات من مات عليه كان خالدًا مخلدًا في نار جهنم {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}[المائدة:72].

[2] والوصية الثانية: بر الوالدين والإحسان إليهما، وثَنَّى بحقهما؛ لأن حقهما عظيمٌ يأتي بعد حق الله -عز وجل- هما سبب وجودك المباشر في هذه الدنيا، عانت الأم في سبيلك ألمَ الحمل، والوضع، والرضاع، والعناية، وعانى الوالدُ في سبيلك عناء التربية والنفقة والتأديب والرعاية في طفولتك حيث لا تُدَبِّرُ من أمرك شيئًا، وفي مراهقتك حيث يقصر إدراتك عن مصالح نفسك ومضارها، فمهما بر الولد بوالديه لن يستطيع مكافأتهما إلا ما جاء في الحديث عنه -عليه الصلاة والسلام- أن يجده مملوكًا فيعتقه

وإنما مما يُؤسف له: إهمال كثير من الأبناء لآبائهم وأمهاتهم، ومقابلتهم إحسانهم بالعقوق والجحود والنكران، ولاسيما عند كبر الوالدين، حيث يكونا أحوج إلى البر والإحسان.

[3] والوصية الثالثة: عباد الله: النهي عن قتل الأولاد خشية الفقر، وذلك أن من عادات الجاهلية الأولى قتل أولادهم الذكور خشية الفقر والفاقة، وقتل الإناث خاشية العار والفضيحة، يعني خشية أن تكبر وتأتي بفاحشةٍ تهين بها أهلها، فأبطل الله -عز وجل- هذه العادة القبيحة، وبين أن الرزق بيده سبحانه وتعالى هو الذي يرزق الآباء والأبناء، ومن في الأرضة جميعًا.

وأمر بإكرام البنات، ونهى عن وئدها، وأمر بإعطائها نصيبها من الميراث حتى ربما أخذت نصف التركة، وربما أخذن ثلثي التركة، وأمر الرسول ﷺ بحسن تربيتها، والنفقة عليها، وبشر بالجنة من فعل ذلك، وصبر على بناته، إلى غير هذه الصور من صور إكرام الله للمرأة وإجلالها أيًا كان موقعها في المجتمع.

وما يتبجح به الغرب وأذنابهم من تكريم المرأة في الحضارة المعاصرة، ما هو إلا تزييف للحقائق، فقد امتهنوا المرأة وعَرَّوْها من حجابها وسترها، وجعلوها عاملة شاقية، كادحة، منفقة، قريبة من متناول نظر الرجل ويده، ما دامت شابةً جميلة، فإذا عجزت وكبرت ولم يعد فيها مطمعٌ لطامعٍ ربما كان مصيرها إلى دار العجزة، فهل هذا هو الإكرام يا معشر العقلاء المنصفين؟!

[4] والوصية الرابعة: النهي عن الاقتراب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ لأن الأخلاق هي أحد أجل مقومات الأمم، وسبب قوتها، وبقائها، وتماسكها، فإذا ذهبت الأخلاق الحميدة من العفة والصدق، والعدل، والأمانة، وحلت محلها الفواحش، والكذب، والظلم، والخيانة، والرشوة، تفرقت وتشتت وضعفت، وأنهكتها الأمراض والطواعين والعقوبات الدنيوية، فهلكت وسقطت، واستباحها عدوها، وقاهرها المتربصون بها.

[5] والوصية الخامسة عباد الله: النهي عن قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ويدخل في ذلك: نفس المسلم الموحد، ونفس الكافر الذي له عهدٌ، أو أمانٌ، أو ذمةٌ، فمن اعتدى على شيءٍ منها بغير حقٍ كان مصيره إلى النار، ولو كان القاتل مسلمًا، والمقتول كافرًا، فليحذر المسلم أن يلقى الله بيدٍ ملطخةٍ بدمٍ حرام، وكلَّ ما اقتربت الساعة كلما كثر القتل في الناس؛ لضعف الإيمان، وقوة الأهواء، والتهاون بالدماء والعياذ بالله.

[6] والوصية السادسة عباد الله: النهى عن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، فلا يتصرف الولي في مال اليتيم إلا بما فيه منفعةٌ للمال، وحفظه وتنميته، ولا يأكل منه أكلًا مبنيًا على محبة النفس وطلب الحظوة لها، بل يأكل منه بقدر تعبه ونصبه ومشقته، وإن استعفف فهو خيرٌ له، ومن تجرأ على أكل مال اليتيم اغترارًا بضعفه، فليبشر بنار جنهم {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10].

[7] والوصية السابعة عباد الله: الأمر بالوفاء بالكيل والميزان قدر الاستطاعة فأموال الناس محترمة، فالمال عصب الحياة، وبه قيام معاشهم، والظلم فيه يؤدي إلى فساد ذات البيت، واختلاف القلوب، والتشاحن والتدابر فيما بينهم، وسفك الدم الحرام واختلال الأمن، فأمر الله بحفظ حقوق الناس حتى في الكيل والوزن، فلا يُنقص البائع مستغلًا غفلة المشتري، أو جهله ولا يزيد المشتري إذا وزن أو كال لنفسه دون علم البائع، بل على كلٍ منهما أن يعدل فإن حصل شيءٌ من الزيادة أو النقص بالغلط والسهو، فالله عفوٌ كريم؛ لذلك قال بعد ذلك: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[الأنعام:152].

[8] الوصية الثامنة عباد الله: الأمر بقول العدل، ولو كان قوله فيه مضرةٌ على الحبيب أو القريب، فبالعدل قامت السماوات والأرض، والظلم ظلماتٌ يوم القيامة، ودعوة المظلوم مستجابةٌ ولو بعد حين، وكثيرٌ من الناس يقول الكذب، ويشهد بالزور بدافع العصبية القبلية، أو بدافع المحبة والصداقة، فلا يُبالي بضياع حقوق من يضيع حقه، أو يُظلم في عرضه أو ماله، أو نفسه والعياذ بالله.

ومن الناس من تحمله العداوة الدنيوية، أو الدينية لشخصٍ أو طائفةٍ على أن يظلمه، ويتهمه، ويلغ في عرضه ظلمًا وعدوانًا، فكيف إذا كان الظلم لأهل السنة وعلماءهم، وشيوخهم كما يفعله أهل الأهواء والضلال، لقد أدب الله المسلمين على أن لا تحملهم عدواة المشركين لهم على ظلمهم لهم، وإخراجهم لهم من ديارهم، وصدهم لهم عن المسجد الحرام على أن لا يعدلوا معهم وفيهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[المائدة:8].

[9] والوصية التاسعة عباد الله: الأمر بالوفاء بعهد الله، ويدخل فيه الوفاء بالعهد بين العبد وربه، وذلك بطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب معاصيه، ويدخل فيه الوفاء بالعهد الذي بينك وبين الخلق كعهد الوظيفة، وعهد السلم والأمان، وغيرها، فمن غدر، ولو بكافرٍ يُنصب له لواءٌ يوم القيامة يُقال هذه غدرة فلان بن فان، فضيحة له في ذلك الموقف العظيم .

نسأل الله أن ينفعنا بما أنزل في هذا الكتاب من البينات والهدى، وأن يجعلنا من أهل الصدق والعدل والوفاء، ومن أهل التعفف والنزاهة والتقوى.

أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن أتبع هداه أما بعد:

عباد الله:
[10] أما الوصية العاشرة والأخيرة في هذه الآيات، من تلك الوصايا المباركة: الوصية بلزوم الطريق المستقيم، صراط الله الذي شرعه في كتابه، وبينه على لسان نبيه ﷺ في سنته، واتبعه السلف الصالح من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فمن سار عليه، ولزمه كان من أهل الجنة، ومن خالفه كان متوعدًا أن يكون من أهل النار، فمن سلك سبيل أهل البدع والتحزبات المنحرفة، والجماعات الضالة كان داخلًا في قوله -عليه الصلاة والسلام-: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)) قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: ((الجماعة)) وفي رواية قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي)).

نسأل الله -عز وجل- الجنة، ونعوذ به من النيران، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[الأنعام:151-153].

الدعاء ...