الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيِّئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إن الله كان عليكم قريبا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون،
سأقفُ معكم في هذه الخطبة وقفةً مع فريضةٍ من فرائضِ الله، ليست مرتبطةً بموسمٍ، ولا موقوفةً على مناسبةٍ، فريضةٍ ليست في العُمرِ مرةً، ولا في العامِ مرةً، بل ولا في اليومِ والليلةِ مرةً، ولكنها في اليوم والليلة خمس مراتٍ مفروضةٌ على كلِّ مسلمٍ مكلَّفٍ: الغنيِّ والفقير، والصحيحِ والمريض، والذكرِ والأنثى، والمسافرِ والمقيم، في الأمنِ والخوفِ، لا يُستثنَى منها مسلمٌ مكلَّفٌ إلا الحائضَ والنفساء.
إنها قرةُ عيونِ المؤمنين، ومعراجُ المتقين، بل إنها قبلَ ذلك قرةُ سيدِ المرسلين محمدٍ ﷺ.
إنها الصلاةُ يا عبادَ الله!
الصلاةُ، الصلاةُ أيها المسلمون، ركنُ الدين وعمودُه، من تركَ الصلاةَ فلا دينَ له، ولا حظَّ في الإسلامِ لمن ترك الصلاة.
(وليس بين الرجل والكفر والشرك إلا ترك الصلاة).
(ومن ترك صلاةً مكتوبةً متعمدًا فقد برئت منه ذمةُ الله).
وكان أصحابُ النبي ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركُه كفرٌ سوى الصلاة.
هذه كلها أيها المسلمون أخبار وزواجر وآثار صحت عن نبيكم ﷺ وصحابته الكرام.
والصلاةُ حفظكم الله – أولُ ما فُرضت على نبيكم محمد ﷺ من الأحكام، فُرضت في أشرفِ مقامٍ وأرفعِ مكانٍ.
لما أراد الله أن يتمَّ نعمتَه على عبدِه ورسولِه محمدٍ ﷺ، ويُظهرَ فضلَه عليه، أسرى به من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي باركنا حولَه، ثم رفعه إليه، وقربه، فأوحى إليه ما أوحى، {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}.
أعطاه من كلِّ خيرٍ حتى رضي، ثم فرض عليه وعلى أمتِه الصلواتِ الخمس.
هي أولُ ما فُرض من الدين، وهي آخرُ ما أوصى به النبي ﷺ أمتَه وهو على الفراش، مناديًا: وهو على فراش الموت مناديا (الصلاةَ، الصلاةَ وما ملكت أيمانكم).
الصلاةُ أيها المسلمون، أكثرُ الفرائضِ ذكرًا في كتاب الله عز وجل، وإذا ذُكرت مع سائرِ الفرائضِ قُدمت عليها، فهي فواتحُ الخيرِ وخواتِمه، مفروضةٌ في اليومِ والليلة خمس مرات.
يفتتحُ المسلمُ بالصلاةِ نهارَه، ويختمُ بها يومَه، يفتتحُها بتكبيرِ الله، ويختمُها بالتسليمِ على عبادِ الله.
بها افتُتحت صفاتُ المؤمنين، وبها خُتمت، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}.
وقال تعالى في آخرِ صفاتِهم: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.
هذه الصلاةُ – أيها المسلمون – وإنها لكذلك وأكثرُ من ذلك، ولماذا لا تكونُ كذلك، وهي الصلةُ بين العبدِ وربِّه، لذةٌ ومُناجاة، تتقاصر دونها جميعِ الملذّات، نورٌ في الوجهِ والقلب، وصلاحٌ للبدنِ والروح، تُطهرُ القلوب، وتُكفِّرُ السيئات، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، مصدرُ القوة ومَطْرَدةُ الكسل، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
وجالبةُ الرزقِ والبركة، {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا، لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا، نَحْنُ نَرْزُقُكَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}.
الصلاةُ عبادَ الله خشوعٌ وتعبُّدٌ ونورٌ وهداية، يُحفَظُ بها بإذنِ الله من سُبلِ الضلالِ والغواية، وهي المفزعُ إذا حَزَبَ الأمرُ، وهي الملجأُ إذا مسَّ البلاء.
وكان النبي ﷺ يقول: (أرحنا بها يا بلال).
يجتمعُ للمصلِّي فيها شرفُ المناجاة، وشرفُ العبادة، وشرفُ البقعة في المسجد، لا يقعده عن الصلاة ظلمةُ ليلٍ ولا عورةُ طريقٍ، ولا صوارفُ الدنيا.
قال النبي ﷺ: (بشِّر المشائين في الظُّلَم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).
مؤمنون مفلحون، في صلاتهم خاشعون، إذا قاموا إلى الصلاة أقبلوا على ربهم، وخفَضوا أبصارهم، ونظروا في مواضع سجودهم، قد علموا أن الله قبل وجوههم، فهم إلى غيرِ ربهم لا يلتفتون، لقد دخلوا على رب الأرباب، وملك الأملاك، كلُّ خيرٍ عنده، وكلُّ أمرٍ بيده، إذا أعطى لم يمنع عطاءَه أحد، وإذا منع لم يُعطِ بعده أحد.
أيها المسلمون، هذا حالُ أهل النجاح حين يُناديهم منادِ: الصلاةَ والفلاحَ.
فمن أراد أن يُحاسب نفسَه صادقًا، فليتفقد نفسَه في صلاته وصلته مع ربِّه، فمن ضيّعها فهو لما سواها أضيع، ومن حفظها فقد حفظ ما بعدها.
قال ﷺ: (أول ما يُسأل عنه العبدُ يومَ القيامة يُنظر في صلاتِه، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر)
للصلاةِ في الدينِ عبادَ اللهِ المنزلةُ العلية، والرُّتبةُ السَّنيَّة، فهي عمودُ الدين، ورُكنُ المِلَّة، من أدَّى حقَّها، وأتمَّ ركوعَها وسجودَها، وأكملَ خشوعَها، ووقفَ بين يدي ربِّه بقلبِه وقالَبِه، كانت قُرَّةَ عينِه، وحلاوةَ قلبِه، وانشراحَ صدرِه، قد حفظها وحافظَ عليها.
قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (خمسُ صلواتٍ كتبهنَّ اللهُ على العباد، فمن جاء بهنَّ ولم يُضَيِّعْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ، كان له عندَ اللهِ عهدٌ أن يُدخله الجنة، ومن لم يأتِ بهنَّ فليس له عند الله عهدٌ، إن شاء عذَّبه، وإن شاء أدخله الجنة).
ومن المحافظةِ عليها: إتمامُ أركانِها وشروطِها وواجباتِها وسننِها، والطُّمأنينةُ فيها، واجتنابُ مُسابقةِ الإمامِ أو مُقارنته في أفعالها.
ومن المحافظةِ عليها أيضًا: أمرُ الأهلِ بها والأقربين، وخاصةً من تحتَ يدِه من البنين والبنات، والأخذُ على يدِ المفرِّطِ منهم. قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
حتى الصبيُّ الذي لم يبلغْ له فيها حقٌّ، وعلى وليِّ أمرِه فيها تكليفٌ، (مُروا أبناءَكم بالصلاةِ لسبعٍ، واضربوهم عليها لعشرٍ).
ومما تعلمونه عبادَ اللهِ: أن الصلاةَ تُصلَّى على كلِّ حال، فالمريضُ يُصلِّي قائمًا، فإن لم يستطع فقاعدًا، فإن لم يستطع فعلى جنبِه، وإذا عجز عن شروطِها من الطهارةِ وسَترِ العورةِ واستقبالِ القبلةِ، صلَّى بلا طهارةٍ، وبلا سَترِ عورةٍ، وإلى غيرِ القبلة، فالصلاةُ عبادَ اللهِ لا تسقطُ بحالٍ ما دامَ العقلُ موجودًا.
وتعلمون أيضًا: أن هذه الصلاةَ شُرِعت في أوقاتٍ معيَّنةٍ، لا يجوزُ تأخيرُها عنها أو تقديمُها عليها من غيرِ عذرٍ شرعيٍّ كالسفرِ أو المرضِ اللذين يُبيحان الجمعَ بين الصلاتين. قال تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ}.
قال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: [ليس معنى أضاعوها تركوها بالكليَّة، ولكن أخَّروها عن أوقاتها، فمن مات وهو مُصِرٌّ على هذه الحال ولم يتب، أوعده اللهُ بغيٍّ، وهو وادٍ في جهنم بعيدٌ قعرُه، شديدٌ عذابُه].
وقال جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
قال جماعةٌ من المفسِّرين: [المرادُ بذكرِ اللهِ الصلواتُ الخمس، فمن اشتغل عن الصلاةِ في وقتِها بمالِه أو ولدِه كان من الخاسرين].
ولذلك قال النبي ﷺ: (فإن صلحتْ فقد أفلحَ وأنجحَ، وإن فسدتْ فقد خابَ وخسرَ).
وروى البخاري عن سَمُرَةَ بنِ جُندُبٍ رضي اللهُ عنه قال: (كان رسولُ الله ﷺ مما يُكثِرُ أن يقولَ لأصحابِه: هل رأى أحدٌ منكم من رؤيا؟ فيقصُّ عليه من شاء اللهُ أن يقصَّ. وإنه قال لنا ذاتَ غَدَاةٍ: إنه أتاني الليلةَ آتيان، وإنهما قالا لي: انطلِق. وإني انطلقتُ معهما، وإنا أتينا على رجلٍ مُضطجعٍ، وإذا آخرُ قائمٌ عليه بصخرةٍ، واذا هو يهوي بالصخرةِ لرأسِه فيثلغُ رأسَه، فيتدهده الحجرُ هاهنا، فيتبعُ الحجرَ فيأخذُه، فلا يرجعُ إليه حتى يصِحَّ رأسُه كما كان، ثم يعودُ عليه، فيفعلُ به مثلَ ما فعلَ المرةَ الأولى. قال: قلتُ لهما سبحانَ اللهِ ما هاذان؟ فأخبراه الرجلُ يأخذُ القرآنَ ويرفضُه، وينامُ عن الصلاةِ المكتوبة).
عبادَ اللهِ:
إن الصلاةَ اليومَ قد خفَّ ميزانُها عند كثيرٍ من الناس فتهاونوا بها، فمنهم من يتهاونُ بشروطِها وأركانِها وواجباتِها، فلا يأتي بها كاملةً، ولا يتعلَّمُها حتى يأتي بها على وجهِها، فربما يُخلُّ بشرطٍ من شروطِها أو ركنٍ من أركانِها، فلا تصحُّ صلاتُه، ويستمرُّ على هذه الحال، يظنُّ أنه يُصلِّي وهو لا يُصلِّي.
وقد رأى النبي ﷺ رجلًا يُصلِّي، وفي ظهرِ قدمِه لُمعةٌ قدرَ الدِّرهم لم يُصِبْها ماءٌ، أي أنه لم يُسبِغِ الوضوءَ، فأمره النبي ﷺ أن يُعيدَ الوضوءَ والصلاةَ.
ومنهم من يتهاونُ بالصلاةِ مع الجماعة، وهذا من علاماتِ النفاقِ أيها المسلمون، ومن ترك الصلاةَ مع الجماعةِ من غيرِ عذرٍ شرعيٍّ فقد ارتكب جرمًا عظيمًا، واستحقَّ عقوبةً شديدةً في الدنيا والآخرة.
بل ذهب جمعٌ من العلماءِ إلى عدمِ صحةِ صلاتِه التي صلَّاها وحده، وإن كان مذهبُهم مرجوحًا، لكن ليعلَمْ من يتخلَّفُ عن صلاةِ الجماعةِ إن صلَّاها وحدَه أن صلاتَه قد اختلف العلماءُ في صحتِها.
واليومَ نرى من الناس تساهلًا عظيمًا في الصلاةِ مع الجماعة، فمنهم من لا نراه في المسجدِ أبدًا في جميعِ الصلوات، وهو يسكنُ بجوارِ المسجد، يخرجُ من بيتِه لأعمالِه الدنيوية، ولا يخرجُ من بيتِه لأداء الصلاةِ في المسجد، وهو يسمعُ النداءَ خمسَ مراتٍ في اليومِ والليلة، ويقول: سمعنا وعصينا.
والعجيبُ في الأمرِ أن مثلَ هذا الشخصِ الذي عصى ربَّه، وأبى أن يُجيبَ دعوتَه ويحضرَ في المسجدِ لأداء فريضاه، العجبُ أن هذا يسكنُ معه في البيتِ رجالٌ من أهلِه يُصلُّون مع المسلمين، ولا يُنكِرون عليه، بل يتركونه في البيتِ كأنه ما فعل شيئًا، ويُؤاكلونَه ويُشاربونَه ويُجالسونَه.
فأين الغيرةُ في الدين؟ وأين الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكر؟
إن الواجبَ على هؤلاءِ أن يُنكِروا على هذا العاصي أشدَّ الإنكار، فإن تاب إلى اللهِ وصلَّى مع المسلمين، وإلا أخرجوه من مسكنِهم، وإن كان المسكنُ له خرجو هم من عندِه، وسكنوا في بيتٍ بعيدٍ عنه، فلا مُحاباةَ ولا مُداهنةَ في دين الله.
وإن كانوا يرجون من الشخصِ العاصي طمعًا في الدنيا، فما عندَ اللهِ خيرٌ وأبقى، واللهُ خيرُ الرازقين.
المُضَيِّعُ للصلاةِ عبادَ اللهِ تسلَّطَ عليه الشيطانُ، وعشَّشَت في رأسِه الصوارفُ، ينتقلُ من وادٍ إلى وادٍ، ومن همٍّ إلى همٍّ، يقومُ إلى صلاتِه إن قام، وقلبُه بغيرِ اللهِ معلَّق، وفكرُه بما سواه مشغولٌ، يُحرِّكُ لسانَه بما لا يعي قلبُه.
{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}.
تحوَّلتِ الصلاةُ عندهم إلى عادة، وقلَّ عندهم فيها الاقترافُ، وابتعدوا فيها عن التفقُّهِ والتفقُّدِ.
فيا لطولِ حسرةِ مَن ضيَّع صلاتَه! وويلَه ماذا ضيَّع! لقد ضيَّع ركنَ الدين، ويْحَه ما أعظمَ خيبتَه، وما أشدَّ غفلتَه!
حُرم قُرَّةَ العين، وراحةَ البال، وبردَ اليقين، يسمع مناديَ الصلاةِ والفلاحِ ثم يُدبِرُ ويتولَّى، وكأنه المعنيُّ بقولِ اللهِ عز وجل: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وكأنه المعنيُّ بقولِ اللهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ}.
ألا فاتقوا اللهَ رحمكم الله، فلا حظَّ في الإسلامِ لمن تركَ الصلاة، ومَن ضيَّع صلاتَه فهو لما سواها أضيعُ.
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني اللهُ وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنَّه كان غفَّارًا.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ وكفى، وسلامٌ على النبيِّ المصطفى ﷺ.
أمَّا بعدُ، فيا أيها المسلمون:
إنَّ من الناسِ من يُصلِّي مع الجماعة بعضَ الصلوات، ويترك الجماعةَ في البعضِ الآخر، كصلاةِ الفجرِ والعشاء.
فإن الذين يتخلفون عن صلاةِ الفجرِ مع الجماعة كثير، وقد أخبر النبي ﷺ أن ذلك من علامات النفاق.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: [كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظن].
وعن أُبيِّ بن كعبٍ قال: صلى بنا رسولُ الله ﷺ يومًا الصبحَ فقال: (أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: أشاهد فلان؟ قالوا: لا. قال: إن هاتين الصلاتين -يعني الفجر والعشاء- أثقلُ الصلواتِ على المنافقين، ولو تعلمو ما فيهما لأتيتموهما ولو حبوًا على الركب).
وقال عبدُ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه: [ولقد رأيتنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلومُ النفاق، ولقد كان الرجلُ يُؤتى به يُهادى بين الرجلين حتى يُقام في الصف مع مرضه ماترك صلاة الجماعة]
ومما يُسبِّبُ النومَ عن صلاةِ الفجرِ في هذا الزمان، أن كثيرًا من الناسِ يسهرون الليلَ: إمّا على قيلٍ وقال، وإمّا على لهوٍ ولعبٍ، واستماعِ أغانٍ ومزامير، وإمّا على مشاهدةِ الأفلام، وقد تكون أفلامًا خليعةً، فإذا أقبل طلوعُ الفجرِ ناموا عن الصلاة.
فهؤلاء سهروا على مُحرَّمٍ وناموا عن واجب، وهكذا المعاصي يجرُّ بعضُها بعضًا.
ولو أن إنسانًا سهر على تلاوةِ القرآنِ، ثم نام عن صلاةِ الفجر، لكان سهرُه حرامًا، فكيف بالذي يسهر على معصيةِ الله، وينام عن طاعةِ الله؟
عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، وأن عمر غدا إلى المسجد ومسكن سليمان بين المسجد والسوق، فمرَّ بأم سليمان فقال لها: لم أرَ سليمان في الصبح؟ فقالت: إنه بات يُصلِّي فغلبتْه عيناه. فقال عمر رضي الله عنه: [لأن أشهدَ صلاةَ الصبحِ في جماعةٍ أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة].
وقد يُضيف الذي يتخلّف عن صلاة الفجر في جماعةٍ جريمةً أخرى، وهي إخراجُ الصلاة عن وقتها، فلا يُصليها إلا بعد طلوع الشمس، فيكون من الذين هم عن صلاتِهم ساهون.
أيها المسلمون:
إن المسلمَ الذي تهمُّه صلاتُه لا ينام عن صلاةِ الفجر، ولا يتخلف عن الجماعة، فالمسلمُ يعملُ الاحتياطاتِ التي تُوقظُه للصلاة.
ومن ذلك أن ينامَ مبكرًا حتى يستيقظَ مبكرًا، وأن يوصيَ من يُوقظه من أهلِه أو جيرانِه، وأن يجعلَ عنده ساعةً تُنبِّهه عند دخول الوقت.
بل إن الإنسان إذا نام على نيةِ الاستيقاظِ للصلاة، فإن الله يُهيئ له ما يُوقظه، لكن إذا لم يُبالِ بالصلاة ولم تخطر له على بالٍ، فإن الشيطان يستحوذ عليه ويُثبِّطه، بل ويبول في أذنه!
عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنهم قال:
ذُكر عند النبي ﷺ رجلٌ ثقيلٌ ما زال نائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، فقال النبي ﷺ: (بال الشيطان في أذنه) رواه البخاري.
فاتقوا اللهَ عبادَ الله في أمورِ دينكم عامة، وفي صلاتِكم خاصة، فإنها آخرُ ما يُفقَدُ من الدين، فليس بعدها دين.
هذا، وصلوا -رحمكم الله- على الرحمةِ المهداة، والسراجِ المنير، محمد بن عبد الله ﷺ صاحبِ الحوضِ والشفاعة، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
(من صلى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا).
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليتَ وباركتَ على آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والحمدُ لله رب العالمين.