لا يكلف الله نفسا إلا وسعها

الشيخ محمد بن غيث

الخطبة الأولى:

الحمدُ للهِ الذي رَهَنَ السَّعادةَ في اتباعِ أمرِه، وجعلَ الهدايةَ في لُزومِ هديه، وختمَ رسالةَ السماءِ بأفضلِ رُسُلِه، وأتمَّ دينَه، وأكملَ شَرعَه، وجعلَ الإسلامَ حنيفيةً سمحةً بلا عَنَتٍ ولا حَرَجٍ ولا مشقَّةٍ إلى يومِ بَعْثِه.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وعدَ المؤمنينَ به بالدخولِ في رحمته، والفوزِ المبينِ في جنته.

وأشهدُ أن محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا لجميعِ خلقه، والمُصطفى بأعظمِ المعجزاتِ لختْمِ رسالته.

صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه، وعلى آلِه وأزواجِه وصحابته، وعلى من تبعهم بإحسانٍ وتمسَّك بسبيله وسُنَّته.

أمَّا بعدُ، أيها المسلمون، اتقوا ربكم تفوزوا بمرضاته، وأطيعوه تَنعموا في جناته، ﴿فَلِلَّذِينَ اتَّقَوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا، وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ، وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ، وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.

أيها المسلمون:
يقول اللهُ تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)﴾ ﴿لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا﴾، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.

هذه -أيها المسلمون- قاعدةُ التشريعِ في الإسلام، ويُسرُ الدينِ الذي ارتضاه اللهُ للأنام.

فالذين مضوا شُدِّدتْ عليهم الأحكام، ووُضعت عليهم الآصارُ والأغلال، وحُرِّمَت عليهم طيبات، وأُلزِموا بالصعبِ من العبادات، فبعثَ اللهُ نبيَّ الرحمةِ بالحنيفيةِ السمحة، والشريعةِ السهلة، والدينِ اليسر، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾، ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ﴾، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾.

فشعائرُ الإسلامِ وشرائعُه إنما شُرعتْ لسعادةِ العباد، وليسَ لشقاوتهم، ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾، ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فلا يضل ولا يشقى (38)﴾

وكان نبينا ﷺ يقول عن دينِ اللهِ الذي جاءَ به: "إن الدين يُسر، ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبَه"، وكان ﷺ يقول: "أحبُّ الدينِ إلى اللهِ الحنيفيةُ السمحة"، و"إنما بُعثتُ بالحنيفيةِ السمحة"، وكان ﷺ يقول: "إن الله رضي لهذه الأمةِ اليسر، وكره لها العسر".

وقد وصف اللهُ نبيَّهُ ﷺ بقوله: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾، ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ، أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.

ومن دعاءِ أهلِ الإسلام: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا، رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ، وَاعْفُ عَنَّا، وَاغْفِرْ لَنَا، وَارْحَمْنَا﴾.

قال نبينا ﷺ: "قال الله: قد فعلت" ، وهذه كرامةٌ لأهلِ الإسلامِ عظيمة، ومنَّةٌ من اللهِ جسيمة.

وقد خطبَ رسولُ اللهِ ﷺ الناس، فقال: "ذَروني ما تركتُكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرةِ سؤالِهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدعوه".

فالأوامرُ الشرعيةُ إنما يُكلَّفُ بها الناسُ على قدرِ الاستطاعة، فـ"إذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم ."

قال الإمام النووي رحمه الله :
( هذا من قواعد الإسلام المهمة ومن جوامع الكلم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم ويدخل فيها مالا يحصى من الأحكام كالصلاة بأنواعها فإذا عجز عن بعض أركانها أو بعض شروطها أتى بالباقي وإذا عجز عن بعض أعضاء الوضوء أو الغسل غسل الممكن وإذا وجد بعض مايكفيه من الماء لطهارته أو لغسل النجاسة فعلى الممكن وإذا وجبت إزالة المنكرات أو فطرة جماعة من تلزمه نفقتهم أو نحو ذلك وأمكنه البعض فعلى الممكن فإذا وجد مايستر بعض عورته أو حفظ بعض الفاتحة أتى بالممكن و أشباه هذا غير منحصرة )

فالقاعدةُ العظيمةُ – أيها الناس –: ((لا تُكلَّفُ نفسٌ إلا وُسعَها))، فاتقوا الله ما استطعتم، هذا دينُنا.

فمن الخطأِ العظيمِ أنَّ المريضَ إذا عجزَ عن الطهارةِ ترك الصلاة، وقد يموتُ على تركِ الصلاة، فالعقلُ إذا كان باقيًا فالصلاةُ لا تسقط، ولكن الشروطَ والأركانَ والواجبات: كلُّ ما عجزتَ عن فعله من ذلك سقط عنك.

واللهُ تعالى إذا أخذَ ما وهب، أسقطَ ما أوجب، والمضطرُّ مرفوعٌ عنه الحرج، والمُكرَه لا إثمَ عليه، وقاعدةُ العلماءِ: لا واجبَ مع عجز، ولا مُحرَّمَ مع ضرورة، فمَن تشدَّد فقد خالفَ هديَ الإسلام، وعرَّضَ نفسَه للهلاك، فكلُّ متشدِّدٍ في الدينِ ينقطع، وكلُّ متنطِّعٍ يَهلَك.

والقَصْدَ القَصْدَ تبلُغوا، فاكْلَفوا من العملِ ما تطيقون، فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، والسعادةُ في متابعةِ السنن، وإن لكلِّ عملٍ شِرَّة (أي نشاطًا)، ولكلِّ شِرَّةٍ فترة، فمن كانت شِرَّته إلى سنة فقد أفلح، ومن كانت شِرَّته إلى غير ذلك فقد هلك.
والإسلام وسطية ورحمة لاغلو ولا جفاء، ولاتشدد ولاتسيب، {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}.

فالخوارج مارقون من الدين بتشددهم، قال الإمام الذهبي عنهم : "عباد قراء، مرقوا من الإسلام وأوقعهم الغلو في الدين إلى تكفير العصاة بالذنوب وإلى قتل الرجال والنساء".

ويقابلهم أهل تسيب تركوا الأوامر وركبوا النواهي وربما تطاولوا على نصوص الوحي بالرد والطعن و التكذيب، وعلى العلماء بالإفتراء والتجهيل والتسفيه، إنحلال ورد للسنن، واقتحام للمحرمات وتشكيك في الثوابت والمُسَّلمَات، ومجادلة في البراهين و الدلائل الواضحات.

فاتقوا الله ما استطعتم، وسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة تبلغوا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}

أقول هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمدلله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدا عبدالله ورسوله إمام المتقين، صلى الله وسلم عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد أيها المسلمون:
يقول الله تعاللى : {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ۚ } هذه الآية العظيمة من آخر مانزل من القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بها في حجة الوداع ولم يُنزل بعدها حلال ولا حرام وفيها أوضح برهان، أن الدين قد كمُل فلايزاد عليه، وأن الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية في أحكام الدين أصوله وفروعه فلا يحتاج أهل الإسلام إلى غيرهما في السير إلى الله ومعرفة دينهم وسلوك صراط ربهم واستقامة هديهم، {فمنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.

فالدينُ قد كَمُل، والنعمةُ من اللهِ تَمَّتْ به، فلا تَكليفَ ما لا يُطاق، ولا تَشَدُّد، ولا أَغلال، ولا شِقاق.

قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله:
"هذه أكبرُ نعمِ اللهِ عز وجل على هذه الأمة، حيثُ أكملَ تعالى لهم دينَهم، فلا يحتاجون إلى دينٍ غيره، ولا إلى نبيٍّ غيرَ نبيِّهم صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه، ولهذا جعلهُ اللهُ خاتمَ الأنبياءِ، وبعثَه إلى الإنسِ والجن، فلا حلالَ إلا ما أحلَّه، ولا حرامَ إلا ما حرَّمه، ولا دينَ إلا ما شرعَه، وكلُّ شيءٍ أخبرَ به فهو حقٌّ وصدقٌ، لا كذبَ فيه ولا خلف، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا﴾، أي: صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأوامر والنواهي. فلما أكملَ الدينَ لهم، تمَّتِ النعمةُ عليهم، ولهذا قال: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، أي: فَارْضَوه أنتم لأنفسِكم، فإنهُ الدينُ الذي رضيه اللهُ وأحبَّه، وبعثَ به أفضلَ رسلِه الكرام، وأنزلَ به أشرفَ كتبِه، فلا يحتاجون إلى زيادةٍ أبدًا، وقد أتمَّه اللهُ فلا يُنقَصهُ أبدًا، وقد رضيهُ اللهُ فلا يَسخَطُهُ أبدًا". اهــ

فالحمدُ للهِ على نعمةِ الإسلامِ وكمالِه، وعلى التوفيقِ للدينِ الحق وتَمامِه.

اللهم ....