كيفية استقبال رمضان

الشيخ محمد بن غيث

الخطبة الأولى:

إِنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شُرورِ أَنفُسِنا ومِن سيِّئاتِ أَعمالِنا، مَن يَهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلِلْ فلا هاديَ له.

وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، يُصلِحْ لَكُمْ أَعمَالَكُمْ، وَيَغفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللهَ، إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ، أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.

أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وشرَّ الأمورِ مُحدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلَّ ضلالةٍ في النار.

{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134)}

أيُّها المسلمون:
بعد أيامٍ قلائلَ يهلُّ عليكم هلالُ شهرِ رمضانَ المبارك، مؤذنًا بحلولِ الخيرِ على أمةِ الإسلام، شهرٌ قليل أيامُه كثيرٌ خيراته، مَن رُحِمَ فيه فهو المرحوم، ومَن حُرِمَ خيرَه فهو المحروم، ومَن لم يتزودْ فيه لمعادهِ فهو الملوم.

شهرُ الفضائلِ والهبات، مَن صامه إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه، ومَن قامه إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبه.

شهرُ عِتقِ الرِّقابِ من النار، (إنَّ للهِ عند كلِّ فطرٍ عتقاءَ من النار، وذلك كلَّ ليلة). فيه يُنادي المنادي: "يا باغيَ الخيرِ أَقبِل، ويا باغيَ الشرِّ أَقصِر." أبوابُ الجنةِ مفتَّحة، وأبوابُ الجحيمِ مغلقة، والشياطينُ مُغلَّة، فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم.

فانتبهوا لأنفسِكم، فهذه مواسمُ الخيراتِ قد أقبلت، فيا حسرةَ مَن فرَّط!

يقول صلى الله عليه وسلم: " بعُد من أدرَكَ رمضانَ فلم يُغفَرْ له"، وفي روايةٍ أخرى: "رَغِمَ أنفُ رجلٍ دَخَلَ عليه رمضانُ ثم انسلخَ قبل أن يُغفَرَ له."

فاللهَ اللهَ في استغلالِ المواسم، والبِدارَ البِدارَ قبل الفوات، نافِسوا الزمانَ، وناقشوا النفوس، وتزوَّدوا فإنَّ السفرَ بعيدٌ، فالسعيدُ مَن عرَفَ شرفَ أوقاتِه فاغتنمَها، والشقيُّ المحرومٌ ضيَّعَها.

كان ابنُ عوتٍ الإِمام إذا جاء شهر رمضان جاء يرملٍ فألقاهُ في المسجد ثم يقول لبنيه "ما تبغون بعد شهر رمضان؟!" وكان لا ينام.

أيها المسلمون:
إنَّ فضائلَ شهركم لا تُعدُّ ولا تُحصى، أجرُه بغير حساب، وهو جُنَّةٌ وحِجاب، يقول عليه الصلاة والسلام: ((كلُّ عملِ ابنِ آدمَ يُضاعَفُ، الحسنةُ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمئةِ ضعفٍ إلى ما شاءَ اللهُ، قال اللهُ: إلا الصوم، فإنَّه لي وأنا أجزي به، يدَعُ شهوته و طعامَه من أجلي، وللصائمِ فرحتان: فرحةٌ عند فطرِه، وفرحةٌ عند لقاءِ ربِّه، والذي نفسي بيده لخُلوفُ فمِ الصائمِ أطيبُ عند اللهِ من ريحِ المسك)).

وفي رواية : "إن ريح الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"

وقال عليه الصلاة والسلام: ((الصومُ جُنَّةٌ، وحِصنٌ حصينٌ من النار)) .

فشمِّروا رحمكم الله، وجِدُّوا واجتهدوا، واعلموا أنَّ تعاقبَ الشهورِ ومجيءَ رمضانَ عاماُ بعد عام معناه دُنوُّ الأآجَالِ وذَهابَ الأعمار، فالسعيدُ مَن اغتنم.

يقول عليه الصلاة والسلام: "اغتنِمْ خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هَرَمِك، وصحتَك قبل سَقَمِك، وغِناك قبل فَقرِك، وفراغَك قبل شُغلِك، وحياتَك قبل موتِك."

فانتبهوا للذي خُلِقْتُم ، وتذكَّروا قولَ نبيِّكم صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المَرْدَ إلى الله، إلى جنةٍ أو نار، خُلُودٌ بلا موت، وإقامةٌ بلا ضعف)).

فانظروا أيَّ الفريقَين تختارون، فاعمَلوا له، فإنه لا أحسنَ من الجنةِ، ولا أفظعَ من النار.

فانتبهوا لأعمالِكم، الدنيا ساعةٌ فاجعلوها طاعة، عمرٌ قصير، وبعدَه سفرٌ طويل، فرمضان ليسَ بشهرِ طعامٌ، وإنما هو شهرُ قيامٍ وصيامٍ وتلاوةِ قرآن.

محطَّةُ تزوُّد، ((يا باغيَ الخيرِ أقبل، ويا باغيَ الشرِّ أقصِر)).

كان أبو ذرٍّ رضي الله عنه يقول: "يا أيها الناس: إني لكم ناصح وإني عليكم مشفق، صلُّوا في ظُلمةِ الليلِ لِوحشةِ القبور، وصوموا الدنيا لحرِّ يومِ النشور، وتصدَّقوا مخافةَ يومٍ عسير."

فالدنيا سوقُ تجارة، والأعمارُ رأسُ الأموال، فاحذروا من تضييعها في غيرِ واجبٍ.

يقول ابنُ الجوزي رحمه الله: "والعُمرُ أخطرُ وأنفَسُ من أن يُفَرَّطَ فيه بنفَس".

وقال رحمه الله : "واعلَم أنَّ الزمانَ أشرفُ من أن يُضيَّعَ منه لحظة".

وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "مَن قال: سبحان الله وبحمده، غُرِسَت له نخلةٌ في الجنة."

وقال عن نفسِه: "وها أنا أحفظُ أنفاسي من أن يضيعَ منها نفسٌ في غيرِ فائدة."

قال الحسنُ رحمه الله: "أدرَكتُ أقوامًا كان أحدُهم أشحَّ على عمرِه منه على درهمِه ودينارِه."

ولذلك قال أنس ابن عياض: "لو قيل لصفوانَ بن سليم: غدًا القيامة، ما كان عنده مزيدٌ على ما هو عليه من العبادة."

فانتبهوا لرمضان أيها الناس، يقول عليه الصلاة والسلام: "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبدِ يومَ القيامة ، يقول الصيامُ: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوة، فشفِّعني فيه. ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل، فشفِّعني فيه، قال: فيُشفَّعان."

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "مَن صام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه، ومَن قام رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه."

وفي هذا الحديثِ شرطُ رمضانَ الأكبر: "إيمانًا واحتسابًا"، إخلاصٌ واحتساب أجرٍ، فمن أخلصَ واحتسبَ النَّصَبَ والتعب من الصيامِ والقيام، هل يَملُّ أو يَكلُّ؟ لا، وألف لا، بل سيزداد اجتهادًا ونشاطًا يومًا بعد يوم، فهو في كل يومٍ تزداد تقواه، فيزداد نشاطه، فلا يستكثر الأيام، ولا يستثقلُ الصيام، ولا يتعب من طول القيام، بل يجعل نصب عينيه قولَ ربِّه: "الصومُ لي، وأنا أجزي به"

فما ظنُّكم بجزاء أكرمِ الأكرمين؟ إذا تولَّى الإعطاءَ بنفسِه، فالإخلاص والاحتسابُ به يُضاعفُ الثواب.

وما فتر من الناسِ في شهرِهم، و ضيَّعوا أوقاتهم، إلا بسببِ أنهم لم يصوموا ولم يقوموا إيمانًا واحتسابًا، بل عادةٌ تجدَّدت، فأحدثتْ في النفسِ تغيُّرًا ونشاطًا، فلمَّا مضى فيها أياماً انقلبتْ إلى عادة، فضعُفَ النشاطُ، وعادتِ الأمورُ إلى مجاريها، وتقلَّص عددُ المصلين يومًا بعد يوم، واستسهلوا القيام، فنصبوا الملاعبَ والخيام، وكلُّ الناسِ يغدو، فبائعٌ نفسَه فمُعتقُها أو مُوبقُها.

فالصيام عبادَ الله، ليس هو مجردُ إمساكٍ عن طعامٍ وشراب، بل هو استكمالٌ للخيرات، وتنقيةٌ من السيئات، "لعلَّكم تتقون".

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه"

وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس الصيامُ من الأكلِ والشراب، إنما الصيامُ من اللغوِ والرَّفث"

وقال عليه الصلاة والسلام: "رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطش".

فالصيامُ يمنعُ الشهوةَ بجميعِ طُرقِها، ولذلك قال الله: "يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي"، هذا الذي رُتِّبتْ عليه الأجور، وأقبل أهلُه على الخير، وتَقاصَروا عن الشر، وسيُنادون غدًا: "أين الصائمون؟" فيقومون، فيدخلون الجنةَ من باب الريَّان، الذي من دخله شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا.

فارفعوا الهممَ لاستقبالِ شهركم، فإنَّه على بابِكم

إذا رمضانُ أتى مُقبِلًا **** فأقبِلْ، فبالخيرِ يُستقبَل

"يا باغيَ الخيرِ أقبل، ويا باغيَ الشرِّ أقصِر".

فانتبهوا لأنفسِكم وأوقاتِكم، فالسعيدُ من عَرَفَ واغتَنَم، والشقيُّ من ضيَّع وأهمل.

ولقد رَغِمَ أنفُ من أدرَكَ رمضانَ فلم يُغفَر له، ولقد عَظُمَ الأسفُ على أقوامٍ ضيَّعوا شهرَهم بما لا ينفعهم، وكأنَّهم ضمنوا الحياةَ، وما علموا أن الناسَ يُتخطَّفون من حولِهم، وإذا جاء الأجَلُ انقطع الأمل، وارتهن كلُّ امرئٍ بالعمل.

فيا باغيَ الخير أقبِلْ، فهذا زمانُك، ويا باغيَ الشرِّ أقصِرْ، وانظر أمامَك، "وسيعلمُ الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون".

أقولُ ما سمعتم، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم...
.
.
.
الخطبة الثانية:


الحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يُحبُّ ربُّنا ويرضاه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، أيها الناس:
اعلموا أنَّ من أهمِّ استعدادٍ لرمضان، وأعظمَ استقبالٍ له: التوبةُ النَّصوحُ من جميعِ الذنوب، صغائرِها وكبائرِها، لأن الإنسان إذا غَرِقَ في الذنوبِ فإنَّه لا يتلذَّذُ بطاعة، بل تثقُلُ عليه العبادة.

يقول الحسنُ رحمه الله: "علامةُ مَن غَرِقَ في الذنوب: عدمُ انشراحُ صدرِه لصيامِ النهار وقيامِ الليل."

وتوبوا إلى الله جميعًا أيُّها المؤمنون لعلَّكم تُفلِحون.

أيها المسلمون:
الدنيا يومُ صومِ المؤمن، قال بعضُ السلف: "صُمِ الدنيا، واجعلْ فطرَك الموت" فالدنيا شهرُ صيامِ المتقين يصومون فيها عن الشهواتِ المُحرَّمة
وقديمًا قالوا: "من صام اليوم عن شهواتِه، أفطرَ عليها بعد مماتِه، ومن تعجَّل ما حُرِّمَ عليه قبل وفاتِه، عوقِبَ بحرمانِه في الآخرة وفواتِه".

واعلموا عبادَ الله:
أن من السُّنَّة: ترائي الهلال. واعلموا أنَّ من بلَغَه رمضانُ نهارًا فعليه الإمساكُ من حينِ الخبر، ولا قضاءَ عليه، وإن كان قد أكل أو شرب قبل ذلك، على الراجحِ من أقوالِ العلماء، لأن التكليفَ يتبع العلم.

وليُعلَم أن من استقبالِ رمضان: الاستبشارَ بقدومِه، إذْ كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُبشِّر أصحابَه بقدومِه، ويقول لهم: "أتاكم شهرُ رمضان شهرٌ مبارك، فرضَ الله عليكم صيامَه، تُفتَحُ فيه أبوابُ السماءِ، وتُغلَقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مردةُ الشياطين، لله فيه ليلةٌ خيرٌ من ألفِ شهر، مَن حُرِمَ خيرَها فقد حُرِم".

ومن استقباله أيضًا: تعلُّمُ أحكامِه، يقول نبيُّكم عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس، تعلَّموا، فإنما العلمُ بالتعلُّم، وإنما الفقهُ بالتفقُّه، ومن يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفقِّهْه في الدِّين".

وليُعلَم أن يومَ الشكِّ لا يُصام، وهو اليومُ الذي قبلَ رمضان، إلا لِمَن له صيامُ عادةٍ فوافَق اليومُ عادتَه،
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تقدَّموا رمضانَ بصومِ يومٍ أو يومين، إلا أن يوافِقَ ذلك صومًا كان يصومُه أحدُكم"
وقال عمَّار بن ياسر: "من صام اليومَ الذي يُشكُّ فيه فقد عصى أبا القاسمِ صلى الله عليه وسلم".

واعلموا أن الصومَ يومَ يصومُ الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام، وعلى ذلك لا يجوز لأحدٍ أن ينفردَ عن الجماعةِ بصيامٍ أو إفطار، ولا يجوز الصومُ إلا بالرؤيةِ أو بإتمامِ العدَّة، وهذا بإجماعِ العلماء، فلا اعتبارَ للفَلَك في ذلك.

قال عليه الصلاة والسلام: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، أو تُكمِلوا العدَّة"

وقال عليه الصلاة والسلام: ": "صوموا لرؤيتِه، وأفطِروا لرؤيتِه".

والراجحُ من أقوالِ العلماء: أن لكلِّ بلدٍ رؤية، والواقع و العمل على هذا، والنصوصُ تؤيده وقولُ الإمامِ يقطعُ النزاعَ في مجالِ الاجتهاد.

وبالله التوفيق والهداية.

اللهم ..............